ومنشأ ضلال من ضل ممن أنكر الاستواء من طوائف المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة: أنهم اعتقدوا في إثبات الاستواء النقص، ولهم في ذلك شبه عديدة متنوعة، فمنهم من قال: إن إثبات الاستواء يلزم منه الجسمية، أي: أن الله تعالى جسم، ومنهم من قال: إن إثبات الاستواء يلزم منه وقوع الحوادث بالرب جل وعلا، ومن قامت به الحوادث فهو حادث، ومنهم من قال: إن إثبات الاستواء لله عز وجل يلزم منه أنه مفتقر إلى العرش.
وكل هذه ظنون كاذبة في الله جل وعلا، وخيالات فاسدة، وإنما قذفها في قلوبهم فساد تصورهم وانحراف منهجهم، وإلا فإنه لا يلزم من إثبات هذه الصفة لله عز وجل أي لازم باطل، فما قالوه من لزوم الجسمية لا نقرهم عليه، ونقول: لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، وما قالوه من قيام الحوادث نقول: ما الذي يمنع من قيام مثل هذه الحوادث؟ لا دليل، أما الذي قالوه من أنه مفتقر إلى العرش، نقول: كذبتم، فالعرش وحملته والسماوات والأرض كلها إنما تقوم بإقامة الله لها، فكل مخلوق مفتقر إليه جل وعلا، وهو الغني الحميد الذي لا يفتقر إلى شيء.
ومنشأ هذه التأويلات والتحريفات والشبه: أنهم اعتقدوا التمثيل، ولو أنهم سلموا للنصوص ونزهوا قلوبهم عن الخيالات والتصورات وطلب الكيفيات لسلموا، ولكنهم ضعفوا وقدموا العقل الفاسد على النص الصريح الصحيح؛ فإن علو الله سبحانه وتعالى كما يقول عنه شيخ الإسلام رحمه الله: من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، فقد جاء إثباته في كتاب الله في سبعة مواضع، وفي السنة في مواضع كثيرة، فثبت بما لا يدع مجالاً للشك ولا مكاناً للريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أمته بأن الله جل وعلا قد استوى على العرش؛ ولذلك يندهش الإنسان من هؤلاء كيف يجرءون على تحريف وإبطال ما ثبت هذا الثبوت في الكتاب والسنة، مع أنهم في أمور دون ذلك يتورعون عن التأويل فيها، ويقولون: لا نستطيع أن نصرف اللفظ عن ظاهره، سواء كان ذلك في الأحكام أو فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وغيرهما من أئمة السلف في الرد على المبطلين المحرفين لصفة الاستواء.
واعلم أن أول من دعا إلى إنكار الاستواء: هو الجهم بن صفوان، وتلقى هذه المقالة عن الجعد بن درهم، وكلاهما منحرف ضال عن منهج أهل السنة والجماعة، وكلاهما لم يعرف بعلم ولا بدين، والعجيب أنه قد نقل بالسند من طريق ابن أبي حاتم والبخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ومن طريق عبد الله بن أحمد عن الجهم بن صفوان أنه قال: (لو وجدت سبيلاً إلى أن أحك من المصحف {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لفعلت) ، وهذه ليست مقالة غير معروفة ولا ثابتة كما يزعمه البعض، ويقول: إن هذه من المقالات التي تنقل بدون أسانيد، بل ذكرها البخاري رحمه الله وابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد، وهي مقالة مشهورة معروفة عن هذا الزنديق، فكيف يسوغ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقبل مثل هذا القول، وإنما ضاق صدره بهذا لجهله وضعف علمه.
وقد أنكر الاستواء الجهمية، ولما أنكروه من حيث المعنى اضطروا إلى أن يئولوا اللفظ؛ لأن اللفظ موجود، وهذا أمر يشترك فيه الاستواء مع بقية الصفات، فلما لم يتمكنوا من إنكار لفظه عمدوا إلى تحريف معناه، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، وهذا من أشهر ما أُول به الاستواء، واستشهدوا على ذلك بالبيت المشهور في كتبهم، وهو: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق قالوا: هذا دليل من اللغة على أن الاستواء معناه الاستيلاء، ولو أننا استدللنا عليه بنص من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لطالبونا بصحة الإسناد، وإن كان الحديث صحيحاً ثابتاً، قالوا: هذا من طريق الآحاد، ونحن نطالبهم بإثبات صحة هذا البيت في اللغة العربية، وقد أنكره أئمة اللغة كـ الخليل بن أحمد وابن الأعرابي وغيرهما، وقالوا: هذا البيت لا يصح، وليس في اللغة أن الاستواء بمعنى الاستيلاء.
هذا من حيث ثبوت ما استندوا إليه.
أما من حيث إبطال هذا التأويل من جهة المعنى فقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى من اثني عشر وجهاً بطلان تأويل الاستواء بالاستيلاء، وأما ابن القيم فأبلغها إلى اثنين وأربعين وجهاً -كما في مختصر الصواعق -لإبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء، وهذا هو التأويل الشائع المنتشر عند جمهور المسلمين ممن لم يسلكوا السبيل المستقيم؛ طريق أهل السنة والجماعة.
وأصل هذا التأويل من الجهمية، ثم انتقل إلى الأشعرية، وأول من نقله إليهم أبو بكر الرازي في تفسيره، وأما متقدمو الأشعرية فإنهم يثبتون الاستواء ويقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فهم يثبتون الاستواء الذي ذكره الله جل وعلا في كتابه، إلا أنهم ضلوا من جهة ثانية، وهي: أنهم جعلوا الاستواء فعلاً يقوم بالعرش لا بالرب سبحانه وتعالى، وأهل السنة والجماعة يثبتون الاستواء وصفاً يقوم به سبحانه وتعالى؛ لأنه أضافه إليه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فأضاف هذا المعنى إليه سبحانه وتعالى، فلا وجه لصرفه عن غيره وإضافته إلى العرش.
هم يقولون: إن الاستواء أمر يحدثه الله في العرش، يصير به الرب مستوياً على العرش، وسبب هذه المقالة الفاسدة وإن كانت أهون من مقالة أولئك؛ لأنهم يثبتون الاستواء من حيث هو، ولا يئولونه بالاستيلاء؛ سبب هذه المقالة الفاسدة: أنهم يمنعون قيام الحوادث بالرب سبحانه وتعالى، ويقولون: إن الله عز وجل لا يفعل ما يشاء؛ لأن قيام الفعل به دليل على الحدوث، ومن قامت به الحوادث فهو حادث.
وهذه قواعد إذا طلبت دليلها من الكتاب والسنة لم تجد لها مستنداً، إنما هي شبه وخيالات تتهافت عند النظر السليم والعقل الصريح والنقل الصحيح؛ ولذلك يجب على المؤمن ألا ترعبه هذه الشبه، فهي كما قال القائل: شبه تهافت كالزجاج تخالها حججاً وكل كاسر مكسور ليس فيها شيء مستقيم، وليس لها شيء تستند إليه؛ ولذلك هم يتناقضون تناقضاً كبيراً، وتجد أن أحدهم يثبت ما ينفيه في آخر كلامه، وينفي ما يثبته في أول كلامه، وبعضهم يلعن بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، مع اعتمادهم وانطلاقهم من أصول واحدة، لكن لما كانت هذه الأصول من عقول بني آدم دَبَّ إليها الضلال، وعرفت بالتناقض والاضطراب، أما من استمسك بالصراط المستقيم والحبل المتين بالكتاب المبين وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؛ فإنه آمن من هذا الاضطراب؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يفرح أن الله سبحانه وتعالى دله على هذا الصراط، وأن يثني عليه خيراً بذلك، وأن يسأله الثبات والزيادة منه.
إذاً: عرفنا أن الجهمية ومتأخري الأشعرية أولوا الاستواء بالاستيلاء.
ومنهم من أوله بالقصد والإقبال، فقالوا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يعني: أقبل عليه.
قيل لهم: لماذا أقبل عليه؟ قالوا: ليخلقه، قيل لهم: العرش مخلوق قبل خلق السماوات والأرض، كما دل على ذلك ما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء) ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بسبق خلق العرش على خلق السماوات والأرض، فلا وجه لما أولوه به.
ومما أولت به هذه الصفة قولهم: إن معنى (استوى على العرش) أي: دبر الملك، ففسروا العرش بالملك، والاستواء عليه بالتمكن منه، وهذا من جملة ما أولوا به كلام الله عز وجل وحرفوه، وإلا فالعرش معلوم أنه خلق من خلق الله عظيم، وليس هو الملك لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، وهل يكون ملك الله فقط على الماء؟ ملك الله للماء ولما في السماوات والأرض، وفي الحديث الصحيح: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ، فهل يمكن أن يقال: معنى: (سقفه عرش الرحمن) ، أي: أن سقفه ملك الرحمن؟ هذا ليس صحيحاً؛ لأن الجنة وما فيها ملك للرحمن جل وعلا، فتبين بطلان هذا التأويل، وإنما ذكرنا تأويلات هؤلاء لكثرة تشبيههم، وكثرة تقريرهم خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة من اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة العظيمة.