ثم قال تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} هذا لبيان كمال قدرته سبحانه وتعالى، وهذا السلب الخامس في الآية، فآية الكرسي تضمنت خمسة سلوب هذا هو خامسها.
قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ختم الآية بهذين الاسمين العظيمين له سبحانه وتعالى، الأول: (العلي) ، وسيأتي بيان وأدلة إثبات علو الله عز وجل قدراً وقوة وقهراً ومكانة وشرفاً، فهو سبحانه وتعالى العالي على خلقه، فكل هذه المعاني الثلاث ثابته له سبحانه وتعالى من هذا الاسم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
(العظيم) هذا الاسم لا يقال لمعنى واحد، بل إنما يوصف الشيء بأنه عظيم لاجتماع أوصاف عديدة فيه، فالله سبحانه وتعالى عظيم لاجتماع صفات الكمال فيه، فهذا ما تضمنته هذه الآية الكريمة من النفي والإثبات.
فلو قيل لك: أين الدليل في هذه الآية على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات؟ فالجواب: أنه في جميع الصفات التي ذكرت يبتدئ بذكر صفة ثبوتية، فأول سلب ورد في هذه الآية سلب الألوهية عن غير الله عز وجل، فافتتحت الآية بقوله تعالى: (الله) وفيها إثبات الإلهية له، ثم أتى بعد ذلك بقوله: (لا إله إلا هو) ، ثم بعد ذلك قال: (الحي القيوم) ، ثم بعد ذلك قال: (لا تأخذه سنة ولا نوم) ، ثم قال: (له ما في السموات وما في الأرض) ، ثم قال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إلخ الآية، فكل نفي سبق بإثبات، وهذا يدل على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات، وأن النفي تابع، والمقصود منه إثبات الكمال في الصفات.
فرغنا من الكلام على آية الكرسي، وما تضمنته من الصفات الثبوتية والصفات السلبية.
ثم قال رحمه الله: [ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح] ، وهذا الفضل جاءت به السنة في قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه، حيث تردد عليه في ثلاث ليال يسرق من الصدقة، وفي آخر ليلة قال له: ألا أعلمك شيئاً ينفعك؟! إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) ، فأقر ما أخبر به من أن هذه الآية تحفظ صاحبها، وتبعد عنه كيد الشياطين، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ابتلي الإنسان بأحوال شيطانية من سحرة ومشعوذين وغير ذلك فقرأ هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يبطل كيدهم، ويذهب ما يزينونه من الباطل، فهذه الآية لها مكانة عظيمة؛ ولذلك ورد الحث على قراءتها في أوقات عديدة، مثل أدبار الصلوات، وعند المنام، وذلك لما تضمنته من هذه الصفات العظيمة للرب جل وعلا.
وقد يقول قائل: نحن نقرأ ونجد من الشياطين تسلطاً علينا! فنقول: إنما يثبت الفضل بالإقرار بما فيها، والعلم بما فيها وتدبرها، وهذا ليس خاصاً بهذه الآية، بل هو في كل فضل رتب على عمل، فكل الفضائل في الكتاب والسنة المرتبة على الأعمال لك من هذه الفضائل سواء أكانت الفضائل أجوراً أخروية أم فوائد معجلة في الدنيا لك منها بقدر ما يحصل لك من حضور القلب عند فعل تلك الأعمال وقول تلك الأقوال، وهذا أمر مهم يفوت كثيراً من الناس، وسببه الغفلة، وظن أن مجرد القول ومجرد لفظ اللسان يتحقق به المقصود من هذه الفضائل.