قال رحمه الله: [والعباد فاعلون حقيقية، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة) .
ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها] .
يقول رحمه الله في نهاية هذا المبحث الجليل: (والعباد فاعلون حقيقة) أي: أن ما يصدر منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، ظاهر أو باطن، صالح أو فاسد، بر أو شر، كل ذلك مضاف إليهم حقيقة، وهم الفاعلون له حقيقة، وفيه الرد على الذين يقولون: إن هذه الإضافات -أي: إضافة الفعل إلى العبد- إنما هي إضافة مجازية، وقد قال بذلك جماعة ممن قال بالجبر، فالجبرية يقولون: الإضافات التي في الكتاب إضافات مجازية، وإلا فالعبد لا اختيار له ولا فعل، ولا ينسب إليه شيء، فرد عليهم الشيخ رحمه الله وقال: (والعباد فاعلون حقيقية، والله خالق أفعالهم) وفيه الجمع بين هذين الأمرين، فإضافة الفعل إلى العبد لا تنافي خلق الله لهذا الفعل، بل الله جل وعلا خلق الخلق وأفعالهم وجميع أحوالهم، وجميع ما يكون منهم ويصدر، ولا تعارض، وعلى هذا دل الكتاب، فكم من آية في كتاب الله يضاف الفعل فيها إلى العباد! ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يحصي ذلك؛ لكثرته ووفرته، فالله عز وجل يضيف إلى العبد: الكفر والتقوى والإيمان والإحسان والبر والصلاح والفساد والصلاة والزكاة والحج، كل هذه إضافات حقيقية، والأصل في الكلام الحقيقة، حتى على القول بأن الكلام فيه حقيقة ومجاز، فالأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا بقرينة، فالعباد فاعلون حقيقة لما يكون منهم، والله جل وعلا خالق أفعالهم.
على هذا مضى أهل السنة والجماعة واتفقوا، ودل على ذلك الكتاب والسنة والعقل والفطرة، وأجمعت عليه الأمم.
ثم قال رحمه الله في تفصيل هذا: (والعبد هو المؤمن) يعني: هو الموصوف بهذا الوصف (والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم) ولذلك رتب الله سبحانه وتعالى على هذه الأوصاف وعلى هذه الأفعال الثواب والعقاب، ولو لم يكن ذلك من العبد؛ لما ترتب عليه الثواب والعقاب، ولما كان من العدل أن يرتب الثواب والعقاب على فعل لم يفعله.
ثم قال رحمه الله: (وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم) واستدل على ذلك بآية من كتاب الله عز وجل، والآيات في هذا كثيرة جداً، وإنما استدل بآية؛ لأن الأمر يثبت بدليل واحد، وتضافر الأدلة مما يقوي الأمر ويثبته، ويكفي في ثبوت الحكم ورود دليل واحد من الكتاب أو من السنة، فكيف بما تواردت عليه الأدلة السمعية بنوعيها: الكتاب والسنة، وكذلك الإجماع، وأيضاً دل عليه العقل والفطرة وأجمعت عليه الأمم؟ فيكون ثبوته من باب أولى.
واستدل لذلك: بأن الله سبحانه وتعالى خالق العباد، وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فأثبت مشيئة وفعلاً، المشيئة: شاء، والفعل: يستقيم، فأثبت المشيئة والقدرة على الفعل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فمشيئة الله سبحانه وتعالى محيطة بمشيئة العبد، فلا تخرج مشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل، ولكن هذه المشيئة العامة لا تلغي مشيئة العبد ولا تنفيها بل الكتاب أثبت هذه، وأثبت هذه.