ثم قال: [فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه] .
هذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب القدر وهي: الإيمان بخلق الله جل وعلا، وأنه خالق كل شيء كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى، وكما دلت على ذلك النصوص المتواترة في الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ما دل عليه العقل، فإن العقل يوصل إلى أنه ما من شيء في الكون إلا بخلقه سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: (لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله) ، قوله: (ومع ذلك) هذا فيه الرد على الذين غلوا في الإثبات، فهناك قوم أوغلوا في إثبات هذه المراتب، فانقسم الناس في مراتب القدر الأربعة -العلم والكتابة والمشيئة والخلق- إلى قسمين: قسم غلوا في النفي فنفوا هذه المراتب كلها فقالوا: لا علم ولا كتابة ولا مشيئة ولا خلق وهؤلاء هم غلاة القدرية.
ودونهم في النفي: الذين أثبتوا العلم والكتابة، ونفوا الخلق والمشيئة، وهم عامة القدرية المعتزلة، وقابل هؤلاء قوم غلوا في الإثبات فقالوا: نؤمن بأن الله عالم بكل شيء، وأنه قد كتبه، وأنه قد شاءه وأنه قد خلقه، فغلوا في الإثبات؛ فألغوا فعل العبد، وقالوا: ما أنت إلا كريشة في مهب الريح، ليس لك اختيار، ولا لك رأي، والفعل لا ينسب إليك! فجعلوا ثبوت هذه المراتب مضاداً ومعارضاً للأمر والنهي، فعارضوا الأمر والنهي بالقدر فقالوا: كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، فجعلوا كل فعل من العبد من الله، وإذا كان من الله فالعبد لا اختيار له، ولا يعاقب على هذا الفعل؛ ولذلك نفوا عدل الله وحكمته ورحمته وقالوا: لا نثبت لله الحكمة، ولا نثبت له العدل، ولا نقول: يمتنع عليه الظلم، بل لا يمتنع عليه إلا ما لا يمكن وجوده، هكذا قالوا! وسبحان الله! فإن المبتدع يبدأ بانحراف يسير، ثم ما يلبث إلا ويبعد عن الصراط، ويأخذ جادة مختلفة، حتى تستغرب أن هذه النهاية كانت تلك مقدمتها، وهذه النتيجة كان هذا القول أولها! وهنا أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن أهل السنة والجماعة -مع إثباتهم لهذه المراتب- لا يعارضون بذلك أمر الله ونهيه، فليس عندهم معارضة بين القدر والشرع، بل القدر والشرع متفقان، ويجب الإيمان بالجميع، والقبول لأمر الله ونهيه، والامتثال لشرعه، فنحن متعبدون بالشرع، ونؤمن بالقدر.