قال رحمه الله: (فصل: ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن: كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود) .
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لإثبات صفة الكلام للرب جل وعلا، وبيان أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، ودل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة، بل وأجمعت عليه الأمم، وهو من لوازم الإيمان بالله، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان بالملائكة، فلا يتم الإيمان بهذه الأمور الأربعة إلا بالإيمان بأن القرآن كلام الله.
أما الإيمان بالله فوجه ذلك أن الكلام صفته سبحانه وتعالى، فمن قال: إنه لا يتكلم فإنه لم يؤمن به تمام الإيمان؛ لأنه كذب ما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به رسله من أنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء كيف يشاء، أما كون ذلك من لوازم الإيمان بالكتب، فإن من لازم الإيمان بالكتب أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد تكلم بكل كتاب أنزله على رسله، حتى التوراة التي كتبها الله جل وعلا بيده لموسى فإنه قد تكلم بها، هكذا قال أهل السنة والجماعة، ومضى على ذلك سلف الأمة، فمن قال: إن الكتب ليست كلام الله فإنه لم يؤمن بها حق الإيمان، بل ولم يعظمها حق التعظيم؛ لأنها إذا لم تكن كلام الله صارت كسائر المخلوقات ليس لها من الحرمة والتعظيم كما لو كانت صفته سبحانه وتعالى.
أما كون الإيمان بأن القرآن كلام الله من الإيمان بالرسل؛ فإن الرسل أخبرت بأن الله سبحانه وتعالى يقول، ويأمر، وينهى، ويخبر، ويعد، ويتوعد، وكل ذلك بكلام، فمن قال: إنه لا يتكلم، فقد صدق المشركين فيما نسبوا الأنبياء إليه من أن القرآن قول البشر، كما قال الله سبحانه وتعالى في خبره عن المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] إن هنا نافية بمعنى: ما هو إلا قول البشر، فليس قول رب العالمين، كذلك هو من الإيمان بالملائكة؛ لأن الملائكة هم الذين بلغوا هذه الكتب إلى رسل الله، فالسفير بين الله ورسوله جبريل عليه السلام، ولا يتم الإيمان بالملائكة إلا إذا آمنا به، وبما أخبر الله عنه من أنه رسوله إلى رسله، يبلغ دين الله ورسالاته، فتبين بهذا أن إنكار هذه الصفة أمره خطير، وخطبه عظيم، وله تأثير في كثير من أركان الإيمان، في الإيمان بالله، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل، الإيمان بالملائكة.
قال رحمه الله: (ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله) ، أي: أن الله سبحانه وتعالى قد تكلم به حقيقة، ثم بعد أن بين العقد، قال: (منزل غير مخلوق) فهو كلام الله منزل، وهذا تأكيد أنه كلامه سبحانه وتعالى، فمن الأدلة الدالة على أنه كلام الله جل وعلا أنه منزل منه، ومبتدأ منه.
وأما قوله رحمه الله: (غير مخلوق) ، فهذا رد على الجهمية الذين أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى متصفاً بالكلام، فقالوا: إنه لا يتصف بهذه الصفة، وليس من صفاته الكلام، إنما الكلام خلقه؛ ولذلك قال: (غير مخلوق) ، فالجهمية يعتقدون أن لله كلاماً فيقولون: كلام الله، والقرآن كلام الله، لكنهم يقولون: إنه كلام مخلوق خلقه الله في غيره، خلقه الله وأنطق به غيره، فهم يضيفون الكلام إلى الله عز وجل لكنها إضافة خلق وليست إضافة وصف، وهذا الفارق بينهم وبين أهل السنة والجماعة، وهو فارق بيَّن كبير.
واعلم أن هؤلاء الجمهية جرى منهم محنة لأهل السنة والجماعة في زمن الإمام أحمد رحمه الله، فامتحنوا الناس في مسألة خلق القرآن، امتحنوا الأئمة والعلماء وعامة الناس، فثبت الله سبحانه وتعالى بلطفه الإمام أحمد على عقد السلف الصالح، وما دل عليه الكتاب والسنة، حتى آب الناس وانقشعت الفتنة، وأصبح قولهم مهجوراً، وأصبح كل أحد يريد أن يستدل على صحة عقيدته ينتسب إلى الإمام أحمد رحمه الله.
وهذا ليس فقط في أتباعه على مذهبه الفقهي، بل حتى أصحاب المذاهب الأخرى، لماذا؟ لأن أهل السنة والجماعة وإن تفرقت بهم الأقوال في مسائل الفروع والأحكام إلا أنهم متفقون في مسائل الاعتقاد، فقول أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السنة واحد في باب الإعتقاد، فليس بينهم خلاف.
واعلم أن أول من أظهر هذه البدعة الشنيعة -وهي إنكار هذا الوصف والزعم بأن القرآن مخلوق- الجعد بن درهم فهو أول من عرف عنه هذا القول، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري لبدعته وشناعة ما جاء به؛ حيث أنكر صفة الكلام، وأنكر أن يكون الله سبحانه وتعالى قد اتخذ إبراهيم خليلاً، وأخذ عنه هذه البدعة الشنيعة تلميذه الموافق له في الشر والفساد الجهم بن صفوان وأظهر القول بذلك، ولذلك ينسب المذهب إليه فيقال: الجهمية، نسبة إليه؛ لأنه هو الذي أظهر مقالات السوء في أهل الإسلام، وإن كان الجعد هو الذي أسس وفصل لكن هذا هو الذي دعا وأظهر وبين.
ولم يعرف من السلف من قال بهذا القول بالكلية، بل كلامهم مطبق -ولا خلاف بينهم- أن كلام الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته، وقد جرى لأهل السنة والجماعة مناظرات في زمن الإمام أحمد، وبعد الإمام أحمد في هذه الصفة، وبينوا بياناً واضحاً شافياً ما يعتقده أهل السنة والجماعة ودلالة الكتاب والسنة وأقوال السلف على ذلك.
قال رحمه الله: (منه بدأ) أي: منه ابتدأ، (من) في قوله: (منه) لابتداء الغاية، أي: من الله بدأ، والمراد بقوله: بدأ، أي: ابتدأ منه سبحانه وتعالى، وذلك رد على الجهمية الذين قالوا: إن الله يتكلم لكنه يخلقه في غيره، فأبطل أهل السنة والجماعة هذه البدعة بهذه المقولة التي اتفقوا عليها، وهي أن الكلام منه بدأ، أي: أنه منه ابتدأ، لا من غيره.
وبعضهم قال: منه خرج، ليبطل ما يقوله الجهمية المعتزلة من أنه خلق الكلام في غيره، ونسبه إليه إضافة تشريف وتكريم، فقالوا: إن الذي كلم موسى ليس هو الله، إنما الذي كلمه صوت خلقه الله في الشجرة، ولا أدري كيف يستجيزون هذا مع أن القول الذي قاله الله جل وعلا لموسى في ذلك الموقف: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:14] ، فهل يجوز أن تقول الشجرة هذا القول؟! لا يجوز ولا يمكن، فعلم بذلك بطلان قولهم، وليس هذا هو الدليل الوحيد لإبطال هذه الشبهة والبدعة، بل الأدلة على ذلك كثيرة.
المهم أن قول أهل السنة والجماعة: (منه بدأ) أي: منه ابتدأ لا من غيره، ولا يعني هذا أنه انفصل عنه كما تقول المعتزلة والجهمية، بل كلامه ليس ببائن منه؛ لأنه صفته، فهو كسمعه وبصره وعلمه وقدرته وغير ذلك من الصفات.
وأما قوله: (وإليه يعود) فهذا فيه إشارة إلى ما جاء في الأثر من أنه يسرى على المصاحف في ليلة فلا يبقى في صدور الرجال من القرآن شيء، ولا يبقى في المصاحف منه حرف، وذلك في آخر الزمان، فيرفع الله جل وعلا كتابه إذا أعرض عنه الناس ولم يعملوا به، ولم يبق إلا شرار الخلق، وعند ذلك لا فائدة من بقائه.
كما أن البيت يهدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجوا قبل ألا تستطيعوا أن تحجوا) وكما أخبر أن الكعبة يهدمها ذو السويقتين من أهل الحبشة.
المهم أن القرآن يسرى به، وهذا معنى قوله: (وإليه يعود) ، وهذا لعظمته وأنه صفة الرب جل وعلا.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.