علم الله سبحانه وتعالى للأشياء يكون قبل وجودها وبعد وجودها؛ فهل علمه بالأشياء بعد وجودها هو نفسه علمه بالأشياء قبل وجودها، أم أنهما علمان اثنان؟ الحق في هذه المسألة هو: أن الله عز وجل يعلم الشيء قبل وقوعه، وهو يعلمه على حقيقته تماماً، فإذا وقع علمه بعلم ثان؛ لأنه رآه أو سمعه سبحانه وتعالى كما قال: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، فالله عز وجل يعلم الشيء قبل أن يكون، ثم يعلمه بعد ذلك بعلم ثان، ويمكن أن نذكر عبارة لـ شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين، يقول رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد أن يكون في بضعة عشر موضعاً في القرآن، مع إخباره في مواضع أكثر من ذلك أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، وقد أخبر في القرآن من المستقبلات التي لم تكن بعد ما شاء الله، بل أخبر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وغير نبيه {لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فهم لم يردوا، ومع هذا علم أنهم لو ردوا لعادوا.
بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء أن يعلمه من هذا وهذا وهذا {لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] مع أنه يعرفهم قبل حدوث المعركة، ولكن قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يعني وجود الفعل بعد ذلك.
وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166] مع أنه يعلم المؤمنين قبل التقاء الجمعين {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167] مع أنه يعلمهم قبل التقاء الجمعين، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12]، وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] مع أنه يعلم الصادقين من الكاذبين قبل هذه الفتنة التي قال تعالى عنها: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11]، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] هو يعلم المجاهدين والصابرين قبل الابتلاء، ومع ذلك قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وغير ذلك من المواضع.
وروي عن ابن عباس في قوله: إلا لنعلم.
أي: لنرى، وروي: لنميز، وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم قالوا: لنعلمه موجوداً واقعاً بعد أن كان قد علم أنه سيكون].
وهذا يوضح هذه القضية: أن علم الله عز وجل بالشيء قبل أن يكون وهو معدوم، غير علمه بالشيء بعد أن يكون وهو موجود.
ولهذا يقول: وكذلك قال جماعة من أهل العلم: لنعلمه موجوداً واقعاً بعد أن كان قد علم أنه سيكون.
ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب.
فمثلاً: يعلم الله عز وجل أن فلان بن فلان سيعصي الله عز وجل، ثم يموت على معصية الله، ثم يدخله النار، هذا العلم قبل أن يوجد، فإذا وجد العبد، وفعل الفعل، ومات عليه؛ علمه أيضاً بعد وجوده، فالعلم الأول قبل وجوده والعلم الثاني بعد وجوده، والثواب والعقاب يترتب على الشيء بعد الوجود وليس قبل الوج