وفي هذا الدرس سيكون حديثنا -إن شاء الله- عن صفة من أعظم الصفات الشرعية التي طال فيها الكلام، وهي صفة علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وأيضاً صفة استواء الله عز وجل على عرشه، ودائماً تلاحظون أن صفة الاستواء تقرن بصفة العلو، والسبب في ذلك هو: أن الاستواء يعتبر دليلاً من أدلة العلو، كما أن النزول يعتبر دليلاً من أدلة العلو، وكذلك المجيء والإتيان ونحوها من الصفات تعتبر من أدلة العلو، وقد بدأ المؤلف رحمه الله بالآيات الدالة على استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] في سبعة مواضع: في سورة الأعراف قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54].
وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3].
وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2].
وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59].
وقال في سورة الم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4].
وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]].
هذه الآيات جميعاً تدل على صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة استواء الله سبحانه وتعالى على العرش، والله عز وجل استوى على العرش حقيقة، كما تدل هذه الآيات، والعرش من أعظم مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو مخلوق من مخلوقات الله عز وجل خلقه الله سبحانه وتعالى قبل خلق السماوات والأرض، والعرش من أوائل المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهو سرير الملك، وقد استوى الله سبحانه وتعالى عليه بعد أن خلق السماوات والأرض.
والدليل على أن هذه الصفة كانت بعد خلق السماوات والأرض هو استعمال (ثم) وهي تدل على الترتيب والتراخي، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]، وهكذا بقية الأدلة تجدون أنها جاءت بلفظ (ثم)، وثم تدل على الترتيب والتراخي، فاستواء الله عز وجل على العرش كان بعد خلق السماوات والأرض، فهو إذاً صفة فعلية اختيارية كانت بعد خلق السماوات والأرض.
والاستواء معناه معلوم، ولكن كيفيته مجهولة، كما قال الإمام مالك عندما سئل عن الاستواء وعن هذه الآية بالذات فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال له الرجل: كيف استوى؟ فأطرق الإمام مالك وعلته الرحضاء -يعني: العرق- ثم قال: (الاستواء معلوم) يعني: معلوم معناه في لغة العرب.
(والكيف مجهول، والإيمان به واجب) يعني: الإيمان بمعناه والإيمان بكيفيته المجهولة بالنسبة لنا واجب.
(والسؤال عنه بدعة)، وقوله: (السؤال عنه) الضمير في قوله: (عنه) يرجع إلى الكيفية ولا يرجع إلى المعنى، فإن الإيمان بمعنى الاستواء واجب؛ لأنه من تدبر القرآن، والله عز وجل يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، ويقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
فمعاني صفات الله عز وجل واضحة؛ لأنها جاءت بلغة العرب، وهذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولا يمكن أن يخاطبنا الله عز وجل بألغاز أو بأحاجي لا معاني لها، ولا يمكن أن يخاطبنا الله عز وجل بكلام لا نفهمه، فنحن نفهم معاني الصفات، لكن لا ندرك كيفيتها، ولا ندرك حقيقتها وكنهها؛ لأنها من صفات الخالق، وهناك فرق كبير بين الخالق والمخلوق، ولأن الله عز وجل لم يخبرنا بكيفية صفاته وإنما بين لنا معانيها؛ لما فيها من الفوائد العظيمة لنا في إيماننا وأخلاقنا وآدابنا.
إذاً: فقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يتضمن إثبات صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى، وهو كذلك يتضمن إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى.
وهذه الصفة الثابتة لله عز وجل معناها هو كما حكى جماعة من المفسرين من السلف الصالح رضوان الله عليهم قالوا: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قالوا: (استوى) بمعنى: علا وارتفع واستقر.
فك