وأهل البدع يؤولون الوجه، فتارة يقولون بأن الوجه صلة زائدة، والمعنى: ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فإن الكاف هنا صلة زائدة، وليست للتشبيه؛ لأن لو كان لها معنى التشبيه فيما يظنون لكان المعنى: ليس كمثل مثله شيء، ففيه إثبات أن له مثلاً ثم نفي المثلية عن هذا المثل.
وهذا لا شك أنه باطل، فالكاف هنا مؤكدة وزائدة وليست لتشبيه المثل بالمثل.
لكن في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] لا يصح أن يقولوا: إنها صلة زائدة؛ لأن الوصف في قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] معطوف على الوجه.
ثم كيف يقال: إنها زائدة مع أنه ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)؟ فلو قيل إنها زائدة لما كان للحديث معنى.
وبعضهم يفسرها بأن المراد من الوجه الثواب، وهذا لا يصح؛ لأنه لو كان يراد به الثواب فمعنى هذا أنه مخلوق، فكيف يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام؟ فليس المقصود بالوجه هنا الثواب، وإنما المقصود به الوجه الحقيقي؛ لأنه وصف بذو الجلال والإكرام، فهذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنه ورد في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (أعوذ بوجهك الكريم)، فلو كان المقصود به الثواب، فكيف يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق، والاستعاذة بالمخلوق شرك؟ ولهذا استدل أهل العلم على أن كلام الله عز وجل صفة من صفاته لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، فالاستعاذة لا تكون إلا بالله عز وجل أو بصفة من صفاته لا بالمخلوق؛ ففي هذه الاستعاذة دليل على أن الوجه صفة من صفاته، وليس المقصود به الثواب.
وقد تحدث عن هذه القضية ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وقد ألفه للرد على الطواغيت التي نصبها أهل التأويل لدك معاقل الوحي، وهي ما يلي: الطاغوت الأول: أن دلالات الألفاظ لا تفيد اليقين.
الطاغوت الثاني: أن العقل يرجح على النقل عند التعارض.
الطاغوت الثالث: المجاز.
الطاغوت الرابع: عدم قبول خبر الآحاد في مسائل العقيدة.
ورد عليها بشكل مفصل، وهو كتاب ضخم كبير، إلا أن الموجود منه يشمل: الرد على أن دلالات الألفاظ لا تفيد اليقين، ودرء تعارض العقل والنقل، لكن آخر الكتاب مفقود وليس بموجود، والمطبوع منه الآن أربع مجلدات، واختصره الشيخ محمد الموصلي البعلي رحمه الله تعالى، فالشيء المفقود وجد مختصراً في اختصار محمد الموصلي البعلي رحمه الله تعالى.
ويمكن مراجعة كلام ابن القيم رحمه الله في موضوع صفة الوجه لله عز وجل، والرد على الذين أولوه بالثواب أو بذاته تعالى في هذا الكتاب من صفحة 335 إلى 344.
يقول رحمه الله تعالى: المثال الخامس: وجه الرب جل جلاله، حيث ورد في الكتاب والسنة، فليس بمجاز، بل على حقيقته، ورد على قول المتكلمين بأن صفات الله عز وجل مجاز وليست حقيقة.
قال: واختلف المعطلون في جهة التجوز في هذا، فقالت طائفة: لفظ الوجه زائد والتقدير: ويبقى ربك.
وقالت فرقة أخرى: الوجه بمعنى الذات، وهذا القول نفس قول الذين قالوا: إن الوجه جائز؛ لأن الذات هو حقيقة الله عز وجل.
وقالت طائفة: ثوابه وجزاؤه، فتجعله مخلوقاً منفصلاً، وقالوا: لأن الذي يراد هو الثواب، وهذه أقوال نعوذ بوجه الله العظيم من أن يجعلنا من أهلها.
ثم نقل عن عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله رده على بشر المريسي في هذا الباب، ثم قال: والقول بأن لفظ الوجه مجاز باطل من وجوه، وساق منها مجموعة كبيرة جداً تتجاوز العشرين وجهاً، فقد رد عليها من ست وعشرين وجهاً، أحدها: أن المجاز لا يمتنع نفيه، فعلى هذا لا يمتنع أن يقال: ليس لله وجه ولا حقيقة لوجهه، وهذا تكذيب صريح بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله.
الثاني: أنه خروج عن الأصل والظاهر، يعني: ظاهر النص الشرعي بلا موجب.
الثالث: أن ذلك يستلزم كون حياة وسمع وبصر وقدرة وكلام وإرادة وسائر صفاته مجاز، بل يمكن أن يقال فيما بعد: وجوده مجاز كما يقوله الملاحدة! وإن دعوى المعطل أن الوجه صلة كذب على الله وعلى رسوله وعلى اللغة، فإن هذه الكلمة ليست مما عهد زيادتها، والعادة أن الذي يكون زائداً هو: من أو ما أو الكاف، أما كلمة لها دلالة بهذه القوة ويقولون: إنها زائدة، فلا شك أن هذا انحراف.
يقول: ما ذكره الخطابي والبيهقي وغيرهما قالوا: لما أضاف الوجه إلى الذات وأضاف النعت إلى الوجه فقال: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، دل على أن ذكر الوجه ليس بصلة، وأن قوله: {ذو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ص