أفرد ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) فصلاً طويلاً في الاستدلال على حكمة الله عز وجل، وهو الفصل الثاني والعشرون، وقد ظن بعض المحققين أن ابن القيم رحمه الله نسي هذا الفضل؛ لأنه في مقدمة شفاء العليل بين الأبواب التي سيتحدث عنها فذكر الباب الثاني والعشرين، وأنه تحدث فيه عن حكمة الرب سبحانه وتعالى وأدلة إثباتها، لكنه حصل خلط في بعض النسخ، وأضيف هذا الباب إلى الباب الذي قبله، فظنوا أنه نسيه رحمه الله تعالى وهو لم ينسه، وإنما حصل الخطأ في بعض النسخ الخطية.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الباب الثاني والعشرون في إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره، وذكر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها.
ثم ذكر الأدلة التي تدل على حكمة الله عز وجل، وميزة هذا الفصل: أنه وزع هذه الأدلة التي حصرها وجعلها على شكل أنواع، في كل نوع من الأنواع مجموعة من الأدلة.
فمثلاً يقول: النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منها، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:5]، وكقوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].
النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا، يعني: الإتيان بلام التعليل، كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المائدة:97]، وموطن الشاهد قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا} [المائدة:97].
وقوله أيضاً: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
ومن ذلك أيضاً: قول الله عز وجل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] إلى آخر الآيات التي ذكرها.
وفرق أيضاً في هذا النوع بين لام التعليل ولام العاقبة، فإن لام التعليل هو فعل الشيء لعلة معينة، لكن لام العاقبة، مثل قول الله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] يعني: آل فرعون ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدواً وحزناً، لكن المقصود باللام هنا العاقبة، وبين ذلك، قال: فإن ما بعد اللام في هذا ليس هو الغاية المطلوبة، ولكن لما كان الفعل منتهياً إليه، وكانت عاقبة الفعل، دخلت عليه لام التعليل، وهي في الحقيقة لام العاقبة.
ثم ذكر أنواعاً أخرى قال: النوع السادس: ذكر ما هو من صرائح التعليل وهو من (أجل)، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة:32] وهذا صريح في أن الله عز وجل فعل هذا الفعل من أجل ذلك.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
قال: النوع الثاني: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقيب الوصف المناسب له، فتارة يذكر (بأن)، وتارة يقرن (بالفاء)، وتارة يذكر مجرداً، فالأول كقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90]، وهكذا ذكر مجموعة كثيرة.
النوع العاشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره؛ كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، وذكر مجموعة كثيرة من الأنواع التي فيها إثبات حكمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل يخلق الشيء لحكمة.