فإن قلت: الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوق كما أنّا قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي عليم قدير وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين.

قال لك أهل الإثبات: وكذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق ومحبة المخلوق. فإن قلت: لا أعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا؟

قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا ومعلوم عند كل عاقل أن إرادتنا ومحبتنا ورحمتنا بالنسبة إلينا كإرادته ورحمته ومحبته بالنسبة إليه، فلا يجوز التفريق بين المتماثلين، فيثبت له إحدى الصفتين وتنفي الأخرى، وليس في العقل ولا في السمع ما يوجب التفريق إذ أكثر ما يقال أني أثبت الإرادة بالعقل لأن وجود التخصيص في المخلوقات دل على الإرادات فيقال لك: انتفاء الدليل المعين لا يقتضي انتفاء المدلول فهب أن مثل هذا الدليل لا يثبت في الرحمة والمحبة فمن أين نفيت ذلك؟ ثم يقال: بل السمع أثبت ذلك أيضا وقد يسلك في إثبات ذلك نظير الطريق العقلي الذي أثبت به الإرادة فيقال: ما في المخلوقات من وجود المنافع للمحتاجين، وكشف الضر عن المضرورين والإحسان إلى المخلوقات وأنواع الرزق والهدى والمسرات هو دليل على رحمة الخالق سبحانه والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذا الطريق؛ تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ويثبت علمه وقدرته ومشيئته، وتارة يدلهم بالنعم والآلاء على وجود برّه وإحسانه المستلزم رحمته وهذا كثير في القرآن، وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه ولم يكن أقل منه بكثير كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ «1» وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) «2» وقوله في سورة الرحمن بعد أن ذكر كل نوع من هذه الأنواع: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) «3».

وبالجملة ما ذكره في القرآن من الأمثال والآيات تارة يقرر بها نفس مشيئته وقدرته وخلقه وتارة يقرر بها إحسانه وإنعامه ورحمته، وهذه الطريقة مستلزمة للأولى من غير عكس، فإنه يلزم من وجود الإحسان والرحمة وجود القدرة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015