أثبت حكم الله تعالى فيها حيث قال: النبوات واسطة بين الله تعالى وبين خلقه في الأفعال والتروك المتضمنة لمصالح المكلفين والثقة بها طريقها ما سبق في علومنا باستدلالها على أن الباري حكيم لا يؤيد كذابا بالمعجزة، ولا يمكن من معجزاته إلا من صدق فيها يخبر به عنه، فلما علمنا ذلك وتحققناه، حصلت لنا الثقة بمن تكاملت فيه شرائط النبوة، وعلمنا أنه سفير فيما بيننا وبين الله تعالى، وأنه رسوله فما أخبرنا به عنه قبلناه من غير تكشف عليه بعقولنا ولا نضرب له الأمثال بآرائنا وعاداتنا بل نعتقد أنه جاء من عند من حكمته فوق حكمتنا وتدبيره فوق تدبيرنا ولا يمتنع في العقل ولا تمنع الحكمة من أن يجعل الأنبياء مذكرين للعقلاء، وموقظين لهم ومرشدين إلا الإصلاح الذي لا يدرك بالعقل ولا يبلغ كنهه بالرأي والفحص وما هذا إلا كما جعل بعض العقلاء حكيما واعظا مذكرا مؤديا وبعضهم يحتاج إلى مذكر ومؤدب ولا أحد منع من ذلك فثبت حسن الرسالة بالعقل، ولأن لله جل وعز في الأفعال والتروك أسرار من المصالح التي لا يعلمها العقلاء ولا يدركونها بعقولهم فاحتاجوا إلى النبوات.
قلت: والمقصود هنا: أن من لم ينزهه عن فعل مقدور له بل جوّز أن يفعل كل ما يمكن ولم يثبت لفعله حكمة غير تعلق الحكم بالمفعولات وتعلق المشيئة بها فإنه احتاج في دلالة المعجزة على الصدق إلى غير تلك الطريق فسلكوا طريقين سلك كل طائفة من أهل الكلام والفقه من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد.
أحدهما: وهو قول أكثر شيوخهم المتقدمين أن وجه دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة امتناع تعجيز الإله عن نصب الدلالة على صدق الرسل فإن تصديقهم ممكن وذلك معلوم بالضرورة والاستدلال ولا دليل إلى التصديق إلا خلق المعجزات وبظهورها على يد الكذاب يبطل دليل صدقهم فلا يبقى في المقدور طريق يصدقون به فيلزم عجز الإله عن الممكن وذلك ممتنع، وقد عول على هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري وأصحابه كالأستاذين أبي إسحاق وأبي بكر بن فورك وكذلك القاضي أبو بكر في مواضع من كتبه وكذلك القاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني.
الطريق الثاني: هي التي اختارها أبو المعالي وأتباعه وقال: إنها الطريقة المرضية عند القاضي أبي بكر وهي التي أشار إليها أبو الحسن في الأمالي وهي طريقة أبي محمد الصابوني ونحوه من الحنفية أن المعجزات تدل من حيث نزلت منزلة التصديق بالقول والعلم بذلك يقع ضروريّا بقرائن أحوال كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل وغضب الغضبان وحرارة الحر وفحوى كلام المخاطب المتكلم، ولا يتوقف العلم بما هذا سبيله على نظر واستدلال فيقبل عليه اعتراض.