فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره، ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة إما ثلاثين سنة وإما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذبا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره، والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقهم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف، فالصادقون يدوم أمرهم، والكذابون ينقطع أمرهم، هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا.
وأما المخبر عنه وبه كالنبيّ يخبر عن الله تعالى بأنه أخبر بكذا أو أنه أمر بكذا فلا بد أن يكون خبره صدقا وأمره عدلا قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) «1» والأمور التي يخبر بها ويأمر بها تارة تنبه العقول على الأمثال والأدلة العقلية التي يعلم بها صحتها فيكون ما علمته العقول بدلالته وإرشاده من الحق الذي أخبر به، والخبر الذي أمر به شاهد بأنه هاد ومرشد معلم للخبر ليس بمضل ولا مغو ولا معلم للشر، وهذه حال الصادق البر دون الكاذب الفاجر، فإن الكاذب الفاجر لا يتصور أن يكون ما يأمر به عدلا وما يخبر به حقّا وإذا كان أحيانا يخبر ببعض الأمور الغائبة كشيطان يقرن به يلقي إليه ذلك أو غير ذلك فلا بد أن يكون كاذبا فاجرا كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) «2».
وهذا بيان لأن الذي يأتيه ملك لا شيطان، فإن الشيطان لا ينزل على الصادق البار ما دام صادقا بارا إذ لا يحصل مقصوده بذلك وإنما ينزل على من يناسبه في التشطين وهو الكاذب الأثيم، والأثيم الفاجر.
وتارة يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمور ويأمر بأمور لا يتبين للعقول صدقها ومنفعتها في أول الأمر، فإذا صدق الإنسان خبره وأطاع أمره وجد في ذلك من البيان للحقائق والمنفعة والفوائد ما يعلم به أن عنده من عظيم العلم والصدق والحكمة ما لا يعلمه إلا الله تعالى أعظم ما يتبين به صدق الطبيب إذا استعمل ما يصفه من الأدوية، وصدق العقل المشير إذا استعمل ما يراه من الآراء وأمثال ذلك، وحينئذ فيحصل للنفوس علم ضروري بكمال عقله وصدقه فإذا أخبر بعد ذلك عن أمور ضرورية يراها أو يسمعها حصل للنفوس علم ضروري بأنه صادق لا يتعمد الكذب وأنه