المقصود: أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشدد فيها، فالصحابة كانوا يختلفون وما كان يضيق بعضهم على بعض في قوله، إلا إذا قال -ولو كان فقيهاً أو إماماً أو كان مجتهداً- قولاً ظاهر المخالفة للسنة والآثار، كإنكار الصحابة على ابن عباس في مسألة العول مع أن ابن عباس كان يقول: هاتوا دليلاً من كلام الله أو من كلام رسوله، لكن فقه جماهير الصحابة في مسألة العول هو الصواب.
فإذا قال إمامٌ متقدم أو معاصر قولاً يخالف صريح الكتاب أو ظاهر الأدلة والمأثور عن عامة الصحابة، فهذا ينكر، وأحياناً بعض طلاب العلم ينكرون أقولاً ويقولون: إنها مخالفة للسنة، مع أن عليها العامة من السلف، مثلاً: الحائض إذا طهرت في وقت العصر، لا شك أنها تصلي العصر، لكن هل تصلي الظهر؟ المسألة فيها نزاع، فمن العدل أن يقال: المسألة فيها نزاع، وتبقى مسألة خلافية، لكن الإشكال أن ترى بعض طلاب العلم أحياناً يقرر أن القول بأنها تقضي الظهر قول لا دليل عليه، مع أن الإمام أحمد يقول: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن، أي أنها تصلي الظهر والعصر، فكيف يقال: بأن هذا القول لا دليل عليه وعامة التابعين على هذا القول؟ ولو كان القائل واحداً لقلنا: إنه اجتهد فأخطأ، ولكن هذا قول الجماهير.
- وكذلك مسألة اعتبار طلاق الثلاث واحدة، فكونك تقول بأن الراجح أن طلاق الثلاث واحدة لحديث ابن عباس عند مسلم، هذا لا إشكال فيه، وقد أفتى به شيخ الإسلام، وأفتى به بعض الأكابر من المعاصرين، لكن الإشكال هو أن تقول: إن القول بأن طلاق الثلاث ثلاث لا دليل عليه، فهل يطبق عامة أهل العلم على مسألة ليس فيها دليل؟!
وليس المقصود من هذا الكلام أن يقال: إنه ينبغي لطالب العلم أن يتبع الجمهور، بل يجب على طالب العلم أن يتبع الدليل، لكن يجب أن يتأدب، فإذا اختار قولاً فلا يقول عن القول الآخر إنه لا دليل عليه، فهذا إنما يقال في مسائل البدع، أو في مسائل ظاهرة الشذوذ عن السنة والفقه، وأما الأقوال التي عليها أكابر العلماء، فلا شك أنه من غير الممكن ذلك.
يقول شيخ الإسلام: (وقد اعتبرت مسائل الشريعة في الجملة، فما وقع عليه النظر، فإن القول الذي يذهب إليه الجمهور من السلف يكون هو الصواب في الجملة)، وعلل ذلك بقوله: (لأنه من المتعذر أن السنة في المسألة تخفى على جمهور أئمة سلف الأمة، ولاسيما إذا اختلفت أمصارهم)، فإذا رأيت العراقيين والحجازيين والشاميين يقولون قولاً، فهنا ينبغي أن تنتبه.
كذلك أيضاً إذا رأيت الليث بن سعد في مصر، ومالكاً في المدينة، والثوري في العراق، والأوزاعي في الشام -وهؤلاء الأربعة كما قال شيخ الإسلام وغيره: هم أعلم الأئمة في طبقة تابع التابعين- إذا رأيت مثل هؤلاء الأربعة أجمعوا على قول فيجب ألا تقول عن مثل هذا القول إنه لا دليل عليه.