اعتدال دين الإسلام بين الغلو والتقصير

قال المصنف رحمه الله: [وهو بين الغلو والتقصير].

الغلو: هو الزيادة، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال: (هلك المتنطعون)، وهذا معنى الغلو، أي التكلف، ومن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم كثيراً ما يقولون لأقوامهم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، ومن معنى هذه الآية، أنهم لم يأتوا بهذا من جهة أنفسهم، وهذا المعنى وإن كان بيناً إلا أنه ينبغي لطالب العلم أن يفقهه، وأن الأصل، أن الإنسان لا يتكلم ويخاطب غيره بأمرٍ ونهي شرعي، إلا إذا تحقق عنده أن هذا الأمر وهذا النهي قد جاءت به الشريعة.

فالمسائل منها ما محل إجماع، وهي مسائل بينة، ومنها ما هو محل نزاع بين السلف، ومسائل النزاع تنقسم إلى قسمين:

الأول: مسائل فيها آثار من السنة، ولكن خالف من خالف لموجب من الموجبات، إما لعدم بلوغ النص إليه أو لغير ذلك.

الثاني: مسائل هي في أصلها ليس فيها آثار مختصة، وإنما مبناها على مقام من الاجتهاد والفقه ونحو ذلك.

فينبغي لطالب العلم أن يعرف قدر كل مسألة، فالأصل يجب أن يكون أصلاً، والخلاف يبقى خلافاً، والاجتهاد يبقى اجتهاداً، وأما أن يتكلف بعض طلاب العلم في المسائل ليحسم في كل مسألة حسماً تاماً فهذا وجه من الغلط في دراسة الفقه، بخلاف مسائل الأصول.

مثال ذلك: من يدرس مسألة الرؤية وهي من مسائل أصول الدين، ومن الطريقة السنية الصحيحة اللازمة النظر إلى أدلة المعتزلة، والرد على جميعها وإبطالها؛ لأن إثبات الرؤية هو قول السلف، وهو الحق المطلق، وما ضاد هذا القول أو ناقضه فهو باطل ولا بد، ولا يمكن أن يكون حقاً، بل يقضى بكونه باطلاً وضلالاً.

لكن إذا كانت المسألة من مسائل النزاع بين الأئمة الأربعة، تجد أن البعض يذكر الأقوال وأدلتها، ويرى أن الترجيح غير ممكن إلا إذا استطاع أن يقضي قضاءً مبرماً وتاماً على كل دليل في الأقوال الأخرى التي لم يرجحها، فمثلاً: إذا قال: الراجح قول الحنابلة قال: الجواب عن أدلة المالكية، فما يدع دليلاً من أدلتهم إلا ويجعل الاستدلال به متعذراً، وهكذا ..

وهذا لا شك أنه غلط؛ لأن هذه مسائل مقولة بالأحرى والأخلق والأظهر والأرجح، ومقام الاستدلال مقام دقيق عند الأئمة، كما قدتقدمت الإشارة لهذا.

والمجتهدون ينقسمون إلى أقسام: فهناك المجتهد المطلق، وهناك المجتهد في المذهب، ويريدون بالمجتهد في المذهب من يستدل بأقوال الإمام، وكثير من أصحاب الأئمة الأربعة من هذا القبيل، كما أنهم قد أضافوا إلى مذاهب أئمتهم بعض الأقوال التي ما كانت محققة عن الأئمة الأربعة، وأيضاً فإنهم استدلوا لمذاهب أئمتهم، فالاستدلال الذي يستدل به حنبلي متأخر لقول الإمام أحمد، ليس بالضرورة أن يكون هو الدليل الذي كان الإمام أحمد يعتبره، ولا يقال على هذا: إن ما في كتب الحنابلة ليست هي دليل المذهب الحنبلي، بل لابد أن ما في كتب الحنابلة ينتهي إلى دليل المذهب الحنبلي، وهكذا بقية المذاهب.

والذي ينبغي لطالب العلم هو أن يمحص وأن ينظر في كلام الأئمة وفي مسائلهم الأولى وفي كلام كبار أئمتهم ماأمكن، وأما التعجل بهذا الوجه، فليس طريقة مناسبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015