القصد إلى الجماعة من أصول السنة

قال: [ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً].

المراد بالجماعة هنا: الجماعة المقتفية أثر النبوة، وهم المهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من مقاصد الشريعة الكلية.

ومن أصول السنة، القصد إلى الجماعة، والبعد عما يوجب افتراق القلوب، وهذا من الأدب الواجب، ومن أخلاق النبوة التي يجب على طالب العلم أن يعلمها وأن يفقهها، وأن يربي نفسه عليها.

ومع كثير من الأسف، فإن كثيراً من النفوس عندها نوع من الاستعداد للافتراق، وأحياناً قد يكون بعض طلاب العلم عنده هذا الاستعداد أكثر مما عند العامة، أي: ترى في قلوب بعض العوام من الاستقرار أكثر مما في نفوس بعض طلبة العلم، وهذا مما يجب على طالب العلم أن ينظره في نفسه، وليس صحيحاً أن تفسر سائر الواردات التي ترد على النفس بكونها من تتبع الحق، فقد يكون هذا تتبعاً للحق، وقد يعرض لبعض الناس -ولو كان من أولي العلم- ما يفرق به ولا يكون موجب ذلك من الحق اللازم.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تكلم عن هذه المسألة، قال: (ومعلوم أنه يعرض لكثيرٍ من أهل العلم الكبار، بعض مقامات الغلط حتى ما هو من الهوى الخفي، فمثل هذا يقع لبعض الأكابر من أهل العلم، بل يقع لبعض الصحابة، وقد يعرض لبعض النفوس درجة من درجات الهوى الخفي، ولهذا كان من فقه السلف، أنهم كانوا يسمون من خرج عن السنة والجماعة: أهل الأهواء، مع أن بعضهم قد يكون خروجه في مسألة ما غير صادر عن هوى محض، ولكن لا بد أن يقارن من خالف المتواتر شيء من الهوى، قد يكون هذا الهوى بيناً وهذا يسلم منه طلاب العلم في الجملة؛ لما هم فيه من العلم والتقوى .. إلخ).

ولكن الشأن في الهوى الخفي، والنفوس فيها إرادات كثيرة، وفيها متعلقات كثيرة، وليس من الصواب أن يكون طالب العلم ليس له حال إلا الاشتغال بإخوانه من أهل العلم الذين قد يخالفونه في بعض المسائل، مع أن إنكار المنكر -لو كان- فرض كفاية، فتكفي مرة أو مرتان أو ثلاث، بينما تجد أن البعض تمضي عليه سنوات لا يردد في مجالسه إلا قضية أو قضيتين، وهذه القضية قد لا تتعلق إلا بكتاب أو بشخص، أو تكون قضية نسبية أو اجتهاداً سائغاً.

ومعلوم أن فروض الكفايات كثيرة، وهناك أيضاً فروض الأعيان التي تجب على المسلم وهي أولى، فينبغي لطالب العلم، أن يكون فقيهاً وأن يكون مهتدياً حقاً ومقتفياً أثر السلف رحمهم الله فيما كانوا عليه من السعي إلى اجتماع القلوب والنفوس والحرص على السنة، ويعلم أن الناظر لا بد أن يخطئ، وقد يغلط فيقول قولاً يخالف ظواهر الأدلة وإن كان من أهل السنة.

ومثل هذا لا شك أنه يجب إنكاره، ويجب تحقيق السنة، وتحقيق سبيل السلف، لكن الإنكار على مثل هذا لا بد أن يكون على قدرٍ من الفقه والحكمة والاعتدال، وأما تخبيب النفوس وتقوية الإرادات النفسية التي تقوم على الانتصار، والاختصاص، والاصطفاء الذي ليس عليه أثر؛ هذا كله مما ينبغي لطالب العلم أن يبتعد عنه، وأن يدرك أن هذا العلم الذي بعث به رسول الله ص، متضمن للرحمة، وهكذا العلم الذي آتاه الله أولياءه، ومن كان علمه لا رحمة معه، فما أوتي العلم الذي رضيه الله ـ لعباده.

ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى الخضر قال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال شيخ الإسلام: (وعلم الأنبياء والأولياء الذين اقتدوا بهم يجمع هذا المقام وهذا المقام؛ لأن العبد إذا تعطل عن مقام الرحمة قوي في نفسه بعض الإرادات التي تبعثه على الانتصار، فاتخذ العلم بغياً)، والذي يشكل حقيقة هو الاستطالة بالحق، وأول بدعة حدثت في الإسلام وهي بدعة الخوارج استطال أهلها بالحق؛ لأنهم ادعوا الحق دليلاً على بدعتهم -أي جعلوه شعاراً لبدعتهم- فقالوا لـ علي: (حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله)، فالكلمة حق، وعلي نفسه قال: (كلمة حق أُريد بها باطل)، فينبغي لطالب العلم أن ينتبه من كلمة حق أريد بها باطل، بل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه من كلمة حق أريد بها حق لكن الكلمة ليست في محلها، فقد تكون الكلمة حقاً والشخص يريد حقاً، لكن المقام ليس هو المقام المشروع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015