قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج؛ ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف].
الكلام على المفسد الخارج والمصلح الخارج ينطبق على ما سبق، ويقصد بذلك: أن الأصل في الفطرة الصلاح، والمفسد آت من الخارج، وكذلك المصلح الخارج الذي يضيف إلى الفطرة شيئاً من معرفة الهدى، بمعنى: أن الفطرة عبارة عن قوة كامنة مستعدة للحق، فإن جاءها مفسد خارج من تربية أو شهوة أو شبهة أو ضلال أو تقليد أو غير ذلك أو شبهات الشيطان ووساوسه؛ فإنها قد تنحرف، وإذا جاءها مصلح من الخارج -وهو الوحي الذي أنزله الله على رسله وما يتفرع عن هذا الوحي من أمور أخرى دالة على الخير- فإن الفطرة تستقيم.
قال رحمه الله تعالى: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].