في هذا الكلام إشارة إلى أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال القلبي الاعتقادي، والاستحلال القلبي الاعتقادي من الصعب أن يعرف بالقرائن، بل لا يمكن أن يعرف بالقرائن، وسبق أن ضربت مثلاً، فلو أن إنساناً عمل فجوراً كثيراً وعمل أشياء كثيرة من الموبقات والمحرمات، وربما يكون بالغ في هذا العمل إلى حد أن نشر هذه الأمور، ولم ينكر تحريمها في الكتاب والسنة، فإنه مع ذلك يبقى مسلماً لا يخرج من الملة.
ومسألة الاستحلال القلبي أو الفساد الاعتقادي لا يمكن أن تعرف - كما قلت - إلا بالإقرار اليقيني الذي نعرف به أن هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام أنكر شيئاً صريحاً في القرآن، وما تأول كما تأول هؤلاء الذين استحلوا الخمر في عهد عمر، فإنهم ما أنكروا الآية، إنما ظنوا أن شربها له وجه من وجوه الإباحة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر مع أنه يحب الله ورسوله ويعتقد اعتقاداً سليماً ويعمل الصالحات ويصلي ويصوم لا يضره ذلك، فهذا تأول؛ إذ ما أنكروا الآية ولا أنكروا أصل التحريم فيها، إنما تأولوا فاستحلوا بالتأول شربها، وهذا هو أكثر ما يحدث من المسلمين حتى في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
إذاً: الحكم بكفر فلان لمجرد أنه ارتكب ذنباً لا يمكن إلا بأن يقر إقراراً يبين به عما في قلبه، وإلا فلا سبيل إلى معرفة القلوب.
وأما الأمور الشركية البحتة فليس فيها مجال للتأول ولا مجال للتردد، إنما نتكلم عن المعاصي.
وبعض الناس يخلط بين مفهوم المعاصي وبين مفهوم الشركيات، وهذا الخلط ربما كان سبب وقوع كثير من الناس الآن في عدم التثبيت.
أقول: كثير من الأمور التي ورد فيها أنها كفر تدخل في الكبائر، أما الشركيات فهي الشركيات الواضحة، كالسجود لغير الله عز وجل تعظيماً له، وكالطواف بغير الكعبة، وكدعاء غير الله صراحة، فهذه أمور شركية صريحة ظاهرة لا تحتاج إلى أن نعرف ما في القلوب، لكن الأعمال الأخرى التي ليست شركية صريحة تبقى من الذنوب أو الكبائر، ولا يمكن أن نحكم بكفر صاحبها إلا أن يعبر عما في قلبه، اللهم إلا إذا كثر الإعراض عن دين الله كثرة يجزم معها أهل العلم الراسخون الذين يعرفون أصول الاجتهاد بأن هذا تنصل من الدين بالكلية، وهذا لا يتم إلا بشروط لا تتوافر لكل الذين يتكلمون ما عدا العلماء الكبار الراسخين.
إذاً: فالأصل في الكفريات العملية -ومنها الحكم بغير ما أنزل الله- أن الكفر فيها كفر غير مخرج من الملة، وقد يكون ظلماً وقد يكون فسقاً، ولذلك جعل أهل العلم المسألة موزعة على ما ورد من ألفاظ النصوص، فجعلوا الحكم بغير ما أنزل الله على ثلاثة أصناف: الأول: كفر، ومنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، والثاني والثالث: فسق وظلم.
فالكفر المخرج من الملة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله واحد من أربعة، كما أنه من الأمور التي لا يمكن أن يعلمها الناس؛ لأنها أمور قلبية لا بد فيها من اجتهاد أهل العلم بمجموعهم، فيحكمون بأن هذا كفر صراح من هذا الشخص، وقد يكون العمل كفراً، ومع ذلك قد لا يكفر فاعله، فقد يكون من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ما هو كفر جزماً، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه وفاعله كافراً، هذا أمر.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج كلاماً إذا رجعنا فيه إلى كلام المحققين من أهل العلم لعرفنا أن المسألة فعلاً لا يحكم فيها على الشخص إلا بعد استنفاذ أمور كثيرة جداً لا يملكها الفرد ولا العالم لوحده، خاصة إذا انبنى عليها عمل، أما مجرد التفلسف فأمر سهل، لكن إذا انبنى عليها عمل يكون الأمر خطيراً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) أي: جلياً كالشمس، ثم قال بعد ذلك: (عندكم) وما قال: عندك (عليه) أي: على هذا الكفر، لا على قرائنه وشواهده (من الله برهان)، فالمسألة خطيرة، فمن يجرؤ في تطبيق هذا الحديث على أن يدعي أنه عمل بهذه الضوابط الشرعية في الحكم.
Q بعض العلماء يقول: إن الذي يكفر هو من حكم بغير ما أنزل الله مع الاعتقاد، فما هو الدليل على وجوب الاعتقاد؟ ولو قلنا بذلك لما كفرنا معيناً أبداً، ولم نستطع أن نكفر أحداً حتى ولو نفى وجود الله؟
صلى الله عليه وسلم الذي يقر بالإلحاد لا شك أنه يكفر، ومن أقر باستحلال الحرام فهو كافر، ومن أقر بأنه يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يقر بحكم الله، ويعلم ذلك فهو كافر، فما وجه اللبس؟! أما كوننا لا نكفر أحداً فمن الخير ألا نكفر أحداً ما دمنا لا نجد دليلاً على كفره، فمن الخير لنا في ديننا ودنيانا وللإسلام والمسلمين ألا نكفر أحداً ما دام أنه ليس عندنا دليل على كفره في قلبه، ومن قال: لابد من أن نكفر؟!