قال رحمه الله تعالى: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير].
يقصد بذلك أن بعض العلماء قد تكون منه زلة يوافق فيها بعض أهل البدع أو أهل الأهواء عن اجتهاد أو عن تأويل، أو لعدم بلوغ الدليل أو نحو ذلك، فهذه الزلة يجب ألا تقلل من قيمة العالم، ويجب ألا نتبعه فيها، ثم إن هذه الزلات صارت من أسباب الفتنة عند أهل الأهواء؛ لأن أهل الأهواء كل منهم الآن يزعم أن له سلفاً من خيار هذه الأمة، ذلك أنهم يلتقطون الزلات من العلماء فيجعلونها مرتكزاً لأهوائهم، وهذا ما عليه كثير من أهل الأهواء في كل زمان، فكل من كان له هوى تجده يلتقط من زلات العلماء في التاريخ ما يوافق هواه فيفتن به الناس، وهذا كثير جداً، وليس في أهل البدع فقط، بل في بعض أهل السنة، فحينما تحدث بينهم بعض الخلافات والفتن في بعض الظروف تجد منهم من يبحث عن بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الزلات للعلماء لتأييد هواهم، وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر.
فأقول: إن كثيراً من أهل البدع وأهل الأهواء قد يحتجون بزلات العلماء من المعاصرين والأولين، الأموات والأحياء، وهذه مسألة يجب أن يقعد لها طلاب العلم ويتبصروا فيها، لا سيما أنها تحصل الآن من كثير ممن سببوا وقوع الكثير من الناس في الأهواء والفتن لعدم معرفتهم بالأصول الشرعية.
ويكفينا أن نضرب مثلاً لما وقع من أهل الأهواء بالفرق الكبرى في اتكائها على بعض الزلات التي وقعت من بعض العلماء، فمثلاً: المعتزلة يزعمون أن لهم سلفاً من الصحابة، وهم أولئك الذين اعتزلوا الفتنة، لمجرد الاشتباه في اللفظ فقط، أخذوا اللفظ وجعلوه موطن فتنة للمسلمين، فزعموا أن الاعتزال هو مذهب أولئك الذين ما شاركوا في الفتنة بين الصحابة، ففهموا أن هؤلاء هم أصل المعتزلة، وأنهم أقرب إلى الحق لأنهم ما وقعت ألسنتهم ولا أيديهم في الفتنة، وصاروا هم أزكى الأمة، فزعمت المعتزلة أنها أزكى الأمة، ثم جاء الشيعة المتأخرون فزعموا أن لهم سلفاً من الأمة، فقالوا: كانوا على التشيع سفيان الثوري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني، قالوا: إن هؤلاء فيهم تشيع، إذاً: التشيع موجود في السلف، وهكذا تجد أن كل مبطل يدعي أن له من هذه الأمة سلفاً، والآن كثرت البلوى بهذه الأمور، الأمر الذي يوجب على طلاب العلم أن يحرروا هذه المسائل ويبينوها للناس ويعطوا الناس المفاهيم والموازين، وكيف توزن أعمال السلف أنفسهم على ضوء قواعدهم؛ لأن السلف وضعوا قواعد بعضهم قد يخالفها لا عن قصد، لكن عن اجتهاد، فالعبرة بالمناهج والقواعد والأصول وليست بمفردات التصرفات، فالعبرة في أخذ منهجهم هي بما قالوه وما قرروه في جملتهم من مناهج وأصول، وليست العبرة بمفردات سلوكهم، وإن كان سلوكهم في الجملة لا شك أنه على هذه الأصول، لكن أقصد أنه قد تحدث بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الكلمات التي تخالف الأصل، فيأتي من هو مفتون أو جاهل فيأخذ هذه الكلمات فيقررها أصلاً خلاف الأصل الأول الذي اعتمد عليه السلف، وأنا أدعي أن أكثر السلف الذين وقعوا في بعض المواقف أو خرجت منهم بعض الكلمات التي هي خلاف منهج السلف حينما ألفوا التزموا منهج السلف في المسألة التي خالفوا فيها عن اجتهاد، وهذا يجعل في مجموع الأمة العصمة، وليس في مفردات تصرفاتهم.
قال رحمه الله تعالى: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفِّرون].