قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة].
هذا الكلام مبهم مجمل، فقوله: [إلا بأمر تجوز معه الشهادة] كلام مبهم، يقصد به أنك لا تشهد على المعين إلا بأمر تستطيع أن تشهد به، كما تشهد عند القاضي في أمر من الأمور الثبوتية، بمعنى أنك لو استشهدت على شخص لم تره ولم تسمعه لكن سمعت عنه ما قيل فيه، فهل تشهد عليه بمجرد قول الناس عند القاضي؟
صلى الله عليه وسلم لا تشهد، وكذا مسألة تكفير المعين، فمهما قال الناس فيه ومهما نقل عنه يجب ألا تشهد إلا بعلم، والعلم لا يتم إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، أن تقيم الحجة على الشخص، وتسمع منه، أو ترى منه، ثم تتأكد من أنه ليس متأولاً، وأنه ليس بمكره، وأنه ليس بجاهل في أمور تستوضحها بنفسك، وما لم تستوضح بنفسك فلا تأخذ بأحكام الناس وأقوال الناس في المعين، إلا ما كان عن طريق الاستفاضة عند أهل العلم الموثوقين الراسخين الذين يقيمون الحجة، فهذا أمر يمكن أن تتبع فيه غيرك، بمعنى أن تقول: أقول ما يقوله العلماء، وتسند الأمر إلى العلماء، لكن أن تشهد بشهادة غيرك فلا، فالأمر المستفيض في الحكم على المعين إذا كنت لا تعرفه تقول فيه: أنا لا أخرج قولي عن قول أهل العلم، ومع ذلك لا أشهد بنفسي؛ لأنه ما توافرت عندي شروط الشهادة، أما من لم يستفض خبره -وأغلب أحكام الناس على ما لم يستفض- فهذا أمر لا يجوز الكلام فيه بتكفير المعين أبداً.
وقد ذكرت في قواعد سابقة أن تكفير المعين ليس في مقدورنا، بل ليس من حق كل شخص أو كل طالب علم، ولا يتم ذلك إلا ممن يملكون الاجتهاد وإقامة الحجة والقدرة العلمية ثم الرسوخ والاستعداد وتوافر الشروط في الحكم على المعين، فالحكم على المعين لا يأتي بمجرد اجتهاد فرد أو فردين أو ثلاثة في مسائل معينة إلا في أمور محدودة يعرفها أهل العلم، أما فيما يتعلق بما يحدث بين الناس الآن وقبل الآن فأكثره مما لا تتوافر فيه الشروط، وأكثره من القول بالظن والرجم بالغيب.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار].
هذه لوازم التكفير، وهي لوازم شرعية وليست لوازم عقلية، فهي لوازم شرعية صحيحة، بمعنى أنه من أعظم البغي أن تكفر الشخص بغير علم؛ لأنك إذا كفرته فكأنك قلت بأن الله لا يغفر له إذا مات على ذنبه، ولا يرحمه؛ لأن الكافر لا تشمله رحمة الله عز وجل إلا إذا تاب، وكذلك إذا حكمت بالكفر على الشخص ومات على ذلك فقد حكمت بتخليده في النار، فهذه أمور كلها خطيرة جداً، تدل على خطر الكلام في التكفير.
قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا حكم الكافر بعد الموت؛ ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي) وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر.
فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علي رقيباً؟! فقال: والله لا يغفر الله لك.
أو: لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟! أوكنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) وهو حديث حسن].
هذا الحديث لا شك أن فيه مواطن عبرة، وفيه أيضاً قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يجب أن يلتزمها المسلمون وطلاب العلم بالخصوص، وهي أن مسألة الحكم على الناس مسألة غيبية، لا سيما أن أغلب الأحكام تتعلق بالقلوب، والظواهر ليست دليلاً على البواطن دائماً، هذا أمر.
الأمر الآخر أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعدى حدود ما كلفه الله به في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على إقامة الحجة وعلى العمل بما يجب شرعاً من تعزير وغيره للوالي أو من ينوبه، لكن لا يصل إلى حد القول على الله فيما يتعلق بمصائر العباد، وأن المذنب مهما أذنب فإنه ما دام له في الله تعلق وله في الله رجاء يرجى له الخير ويرجى له أن يرحمه الله تعالى مهما بلغت ذنوبه، ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتألى على الله عز وجل، وقد يكون هذا الذي على العبادة قال هذا الكلام غاضباً، لكن ينبغي ألا يؤدي الغضب بالإنسان إلى أن يتجاوز الحدود الشرعية، فلا شك أن مثل هذا قد يقال: إنه موقف استفزاز؛ لأن هذا المذنب استفز هذا الناصح فجعله يقول هذا القول حينما أصر على الذنب، نقول ومع ذلك فالمسلم يجب عليه أن يضبط نفسه في هذه ا