قال رحمه الله تعالى: [وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.
وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا -يا أستاذ- عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: (يا الله) إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو].
هذه الضرورة يدركها كل إنسان، وليس المسلم فقط، فكل إنسان يعرف الله عز وجل ويدرك هذه الضرورة، وهي اللجوء إلى الله عز وجل والتوجه إلى العلو، سواء كان توجهاً فعلياً أو توجهاً قلبياً.
والناس في هذا درجات، فالمسلم الموقن الصادق المتقي لله عز وجل يستصحب في كل أموره دائماً هذه الحقيقة، فيتوجه إلى العلو حينما يدعو الله عز وجل، يتوجه قلبه وجوارحه، أما توجه قلبه فهذا أمر دائم، أما توجه جوارحه فعندما يدعو أو يعبر عن شيء من كمالات الله عز وجل يجد أنه يشير إلى العلو، دون أن يقصد أحياناً، أي: يشير بفطرته.
أما العاصي والكافر ونحوهما فإنهم عند الضرورة -أي: عند الأمور الملحة وعندما يمسهم الضر- تجدهم بفطرتهم تتوجه قلوبهم وجوارحهم إلى الله عز وجل، حتى عند المفاجئة التي ليس من طبع الإنسان أن يفكر فيها بسرعة، فعندما يدهمه أمر يجد أنه متوجه إلى الله عز وجل إلى جهة العلو بجوارحه وبقلبه، بل الحيوانات كذلك، فالحيوانات عندما يمسها شيء من الضر -خاصة عند النزع- أو عندما تفقد شيئاً من الأمور الغالية عليها -كأن تفقد الدابة ولدها- تجدها تشخص ببصرها إلى الله عز وجل إلى جهة السماء، فهذا أمر فطري يدرك في الحيوان وفي الإنسان، لكن الفلسفة أحياناً تضيع الحقائق الفطرية وتضيع الأمور التي يقتضيها العقل السليم، ودليل ذلك أن الناس إذا تمادوا في الفلسفات أنكروا البدهيات المشاهدة أمامهم فضلاً عن البدهيات العقلية؛ لأنه يوجد من الفلاسفة من يذهب إلى الشك في وجود نفسه، فالناس ليس في أوهامهم وظنونهم دلالة، والعقول لا تنضبط بشيء، فمن أضل الله عقله فلن يهتدي بالحق، فليس فيما يوجد من شذوذات عند المتكلمين والفلاسفة دليل على ما في الفطر والعقول السليمة، إنما الدليل ما عليه جمهور العقلاء وما تقتضيه النصوص الشرعية والفطرة السلمية التي يعبر عنها السذج من الناس، فإذا اختلف المتجادلون فليلجئوا إلى ما عليه أهل الفطرة السليمة الذين لم تدخلهم الفلسفة، فسيجدون عندهم حقيقة الأمور الفطرية، نعم ليس عندهم فقه شرعي، لكن الحقيقة في الأمور الفطرية تجدها عند السذج السالمين من الأهواء، السالمين من البدع، السالمين من الفلسفات الدخيلة، تجد عندهم كثيراً من الحقائق التي يماري فيها أهل الأهواء، سواء ما يتعلق بوجود الله عز وجل، وبعلوه سبحانه وفوقيته، وما يتعلق بأسمائه وصفاته وأفعاله.