قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.
قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب].
قولهم: (لا نسلم أنه قابل للفوقية) هذا قول أهل الكلام الفلاسفة والجهمية وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين الذين سايروا الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، كـ الرازي والجويني في أول أمره، فهؤلاء ينكرون الفوقية لله عز وجل، ويؤولون ما ورد في النصوص من الفوقية والعلو لله سبحانه بأمور معنوية، وبعضهم ينكرها بالكلية كغلاة الجهمية، ثم اتسعوا بذلك على أوهام ليس لها أصل، ذلك أن مسألة الفوقية والعلو في حق الله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يتفلسف فيها؛ لأن القول بأنه قابل للفوقية أو غير قابل مسألة لا ينبغي أن ترد مع النص أبداً، فنحن نقول بأن الله عز وجل من صفاته أنه علي على خلقه، وكذلك من أسمائه العلي، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه في السماء، كل هذه معانٍ جاءت بلسان عربي مبين أراد الله بها حقيقة معناها، وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى، فنقف عند هذه النصوص ونعلم أنها حقيقة، ولا نأتي بأمور تشكل وتلبس، ككلمة قابل أو غير قابل، فمن الذي يفرض القبول أو لا يفرضه؟ فالله عز وجل هو القاهر فوق عباده، ولا تحكم لأحد فيه.
فالشارح جاء بعبارات أطلقها المتكلمون والفلاسفة قد تنطلي على كثير ممن ليس عنده علم بعقيدة السلف، فقولهم مثلاً: القيام بالنفس أو عدم القيام بالنفس، يقصدون به أن الله عز وجل له وجود غير وجود المخلوقات، وأنه غني عن مخلوقاته لا يحتاج إليها، وهذا أمر بدهي فطري، فهو سبحانه الغني، وقد أكد الله عز وجل ذلك وأكده رسوله صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نعمل العقول الضعيفة في مثل هذه الحقائق الكبرى التي تقتضيها الفطرة ضرورة وورد النص بها قطعاً.
إذاً: فقول الفلاسفة بأنه قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه هذا كله خبط وخلط لا يجوز الاعتماد عليه، وإنما اضطر السلف للرد على هذه المسائل من أجل أن يقرروا الحق بمسالك القوم أنفسهم، فيقيموا الحجة عليهم بأدلتهم وبراهينهم.
وكذلك قولهم: (غير مخالط للعالم) هذا أيضاً أمر بدهي، وكذلك كونه موجوداً في الخارج، أي: خارج المخلوقات، أي: أن وجوده غير جنس وجود المخلوقات، وأحياناً يعبر الفلاسفة عن الوجود في الخارج أنه في خارج الأذهان، وهذا أيضاً افتراض فلسفي لا يعقل، فما في الأذهان لا يقبل التحقيق إلا إذا كان له وجود فعلي، والوجود الفعلي إن كان في عالم الشهادة فقد ندركه بحواسنا أو يأتي به خبر الغيب، وإن كان في عالم الغيب فلا ندركه إلا بخبر الغيب.
فإن كان الوجود الذي تتصوره الأذهان يتعلق بأمر وجودي فعلاً وفي عالم الشهادة تدركه الحواس فهذا أمر يصدق ما يرد في الأذهان من تصورات.
وإن كان ما يرد في الأذهان يتعلق بأمر غيبي فإن الأمر الغيبي يقر بما جاء في الخبر لا بما في الأذهان، نعم الأذهان تتصور أشياء قد يكون لها وجود وقد لا يكون لها وجود، فلا سبيل إلى تحقيق وجود الموجودات التي ستتصورها الأذهان إلا بالحواس أو بخبر الغيب، وما تدركه الحواس لا جدال فيه، وما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يثبت أبداً إلا بخبر الغيب، وما تتوهمه الأذهان في الموجودات التي لا تدركها الحواس لا يمكن أن تفهم كيفيته أبداً، فقولهم: (إنه موجود في الخارج) يقصدون به أن الله عز وجل موجود خالج المخلوقات، وهذا -كما قلت- أمر فطري بدهي؛ لأن الله ليس بحال في مخلوقاته، وهو عز وجل الأحد الصمد، فلا يمكن أن تتصور الأذهان المجبولة على الفطرة ولا العقول السليمة إلا أن الله عز وجل ليس في مخلوقاته، فكلمة خارج وداخل كلمة فلسفية يجب أن نتفاداها؛ لأن معناها مفهوم بالفطرة والضرورة والنص، لكن اللفظ فيه لبس، فالله عز وجل وجوده وجود فعلي بأسمائه وصفاته، وليس وجوداً ذهنياً كما يتصور الفلاسفة والجهمية.
وقوله: [بل وجوده خارج الأذهان قطعاً] يعني: أنه لا يكون وجوده فيما تتخيله الأذهان.
يقول: [وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارجه]، هذا أيضاً افتراض تكلم به المتكلمون، فقالوا: هو إما داخل العالم وإما خارجه، فلما قالوا هذه الكلمة وردت عليهم معضلات كثيرة؛ لأنهم لما قالوا بافتراض أنه خارج العالم اضطروا إلى أن يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً وأسماء وصفات وأفعالاً، فلما اضطروا إلى ذلك نفوا ذلك، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله عما يزعمون! مع أن هذه مسألة لا تتصور عقلاً، مع أنا نقول: إن هذه الأمور يجب أن لا نخوض