ما تقتضيه معرفة العبد أن كل شيء بيد الله من إفراد ربه بالخشية والتقوى

قال رحمه الله تعالى: [وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]، ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة، ولابد لكل عبد أن يتقي أشياء؛ فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً فلابد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته، فحينئذ فلابد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم].

يعني: لا تتفق رغباتهم، فلو أراد إنسان مثلاً أن يرضي الخلق لم يستطع لكنه أمر أن يرضي الله سبحانه، أما الخلق فإنه لا يستطيع أحد أن يرضيهم؛ لأن رغباتهم تتفاوت، بل تتعارض، فإرضاء الناس كلهم لا يمكن، فالناس لا يتفقون على حب شيء ولا على بغض شيء.

قال رحمه الله تعالى: [بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه.

فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور].

هذه قاعدة عظيمة، فإرضاء الخلق لا يقدر عليه ولم يأمر الله به، وكونه لا يقدر عليه، بمعنى: لا يمكن لأحد أن يرضي جميع الناس، فهذا يستحيل، كما أن الله عز وجل لم يأمر بذلك، ومع ذلك فإن هناك من العباد من يسعى إلى إرضاء المخلوقين ولن يستطيع، ولا يسعى إلى إرضاء الله عز وجل ولا يمتثل أمر الله، في حين أن العكس هو الصحيح؛ وهو أن رضى الله عز وجل ممكن بطاعته سبحانه وبتقواه، كما أنه مأمور به، فالعاقل من أدرك هذا وعمل به، نسأل الله التوفيق والسداد للجميع.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مئونة الناس، كما كتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنهما مرفوعاً -وروي موقوفاً عليها-: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً).

فمن أرضى الله كفاه مئونة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون؛ إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وقال في البغض مثل ذلك.

فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل للتقوى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، أي: فهو كافيه لا محوجه إلى غيره].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015