قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً].
يعني: انضم إليه وانضاف إليه.
قال رحمه الله تعالى: [فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع)، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله.
كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء).
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء)].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) هذه الشفاعة مخصصة تتعلق بأمور الخلق في دنياهم، أي: شفاعة بعضهم لبعض، ولا تدخل فيها الشفاعة عند الله عز وجل؛ لأن الأمر هنا بالتماس الأجر أمر تكليف، والشفاعة المعنية في الآخرة لا تكليف فيها، إنما تحدث بإذن الله عز وجل، وليس فيها طلب الأجر، ولا تحدث إلا ممن ذكرت أوصافهم.
أما الأمر هنا: (اشفعوا تؤجروا) فهو أمر لكل مسلم، إذاً: فلا بد من أن تكون الشفاعة الواردة في هذا الحديث فيما يتعلق بأمور الناس في دنياهم، وفي مصالحهم، وفيما يقدرون عليه، أقول هذا لأن بعض المسلمين قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعم الصالحين والأولياء في قبورهم، وأنهم يتقربون بالشفاعة لمن جاء يستشفع بهم ويدعوهم عند القبور، وأنهم ممن أتيحت لهم الشفاعة وأذن لهم فيها، وأنهم بذلك ممتثلون لأمر الله عز وجل، وهذا خطأ شنيع في فهم النص؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعني: في دنياكم، أما بعد الممات، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا أمر غير وارد، وليس هو من أبواب التكليف ولا مما يلتمس فيه الأجر.
قال رحمه الله تعالى: [في الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء)، فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء صلى الله عليه وسلم يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء)؛ فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة؛ لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].