قال رحمه الله تعالى: [فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له مطيعا لأمره مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه].
هنا ذكر ثلاث صور من الصور الكبرى للتوسل: الأولى: التوسل بدعاء الوسيلة وشفاعته يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين الذين يؤذن لهم.
الصورة الثانية: التوسل إلى الله عز وجل بالعبادات المشروعة، وبالأمور الإيمانية، سواء كانت اعتقاداً أم عملاً، فهذه وسيلة مشروعة.
فهنا وسيلتان: وسيلة لكل إنسان، وهي عبادة الله عز وجل، ووسيلة وعد الله بها يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان: شفاعته العظمى وتسمى الوسيلة، وكذلك شفاعته لأهل الكبائر، وهذا لا تطلب في الدنيا، ولا سبيل إلى معرفتها في الدنيا، إنما تكون يوم القيامة بشروطها.
الصورة الثالثة: التوسل بمحبة السائل واتباعه، يعني: محبة السائل لنبيه صلى الله عليه وسلم وبإيمانه به، كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي له، فهذا توسل مشروع؛ لأنه توسل من الشخص بعمله.
وهناك صورة من هذا النوع خفية لم يشر إليها الشارح، وهي أن بعض الناس قد يتوسل إلى الله عز وجل بتقديسه من يقدسه من المخلوقين، ويظن ذلك نوعاً من المحبة، كالذين يقدسون الأولياء أو الذين يقدسون الأئمة، أو الذين يقدسون الأشجار والأحجار، ويزعمون أن ذلك من أعظم الإيمان، فيتوسلون بذلك إلى الله زاعمين أن ذلك من الوسيلة، وهذا نوع من الشرك.
الصورة الرابعة: الإقسام بالمتوسل به، فهو إقسام بغير الله عز وجل، وحلف بغير الله لا يجوز.
أما التوسل بذاته فلا يجوز؛ لأن الذات لا تنفع، والإنسان لا ينفعك منه إلا دعاء الرجل الصالح؛ لأن الله عز وجل وعد بإجابة الدعوة حتى وإن كانت بالغيب، لذلك شرع للمسلم أن يدعو لغيره من المسلمين الغائبين والحاضرين الأحياء والأموات.
فهذه من الوسائل المشروعة التي جعلها الله من المنافع العامة بين المسلمين وبين المؤمنين، فالمسلم يدعو لأخيه في ظهر الغيب، ويدعو لمن سلفه، فهذا أمر من الوسيلة المشروعة، لكن تسميته وسيلة لم تكن معتادة عند الناس، فربما يتعلق به وجه ممنوع، وهو الاعتماد على دعاء الغير.
ونرى هذه السمة موجودة عند بعض الناس أو بعض الفرق والفئات، وهي أن كل من لقي منهم أحداً من المسلمين قال: ادع الله لي.
فهذا قد خرج عن الحد الشرعي في طلب الدعاء من الغير بشروط وضوابط، حيث يؤدي ذلك إلى الاتكال.
قوله: [والتوسل بذاته] أي: بذات الشخص، بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره.
وقوله: [هو الذي كرهوه] يقصد أبا حنيفة وصاحبيه، وصحيح أن السلف حرموه وجعلوه من البدع المغلظة، بل من الشرك أحياناً، فالتوسل بالذوات لا يجوز؛ لأن الذوات لا تنفع.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به التسبب به؛ لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به].
السؤال بالشيء الذي هو العمل الصالح أو نحوه ليس على إطلاقه، فهناك من الأشياء ما لا يجوز السؤال بها، فأمور الغيب هي أشياء، لكن لا يجوز أن تسأل الله بها.
فقوله: [وكذلك السؤال بالشيء] أي: بالشيء الذي يعمله الناس، أو بالشيء الذي هو من عمل الإنسان نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: (فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله].