أبو المعالي الجويني ناصح مشفق ونادم على ما سلكه من علم الكلام

ثم أبو المعالي الجويني، وهو من هو في جلالته وقدره وعلو شأنه في سائر العلوم، إلا أنه زل في بعض مسائل الاعتقاد وترك سبيل السلف إعجاباً بالكلام وأهله، ثم خاض بحر الكلام الخضم، وأخيراً مع علمه وعقله ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي حار فيها ورجع كما رجع غيره، حتى إنه نصح من سبقوه ومن لحقوه، وخاصة اللاحقين والمعاصرين له، نصحهم بأن يستفيدوا من تجربته، وهو رائدهم في وقته، بل وبعد وقته، فـ أبو المعالي يعتبر من الرواد الكبار لعلم الكلام ومن مؤسسيه، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا من أشاعرة وماتريدية ومن نحا نحوهم يعولون على أبي المعالي في الكلاميات التي قررها بعقله وبقواعده الفلسفية التي أنشأها أو قلد فيها غيره، وكذلك بأسلوبه في مخالفة نهج السلف.

ثم بعد ذلك ندم ورجع ونصح قومه لعلهم يتعظون، فقال: (يا أصحابنا!) يعني: يا أهل الكلام، أو: يا من يسمعون منا، أو: يا أهل مذهبي في الفقه! (لا تشتغلوا بالكلام)، وهذه -والله- نصيحة ممن اشتغل بالكلام، لو جاءت من إنسان آخر لقيل: هذا خصم للكلام، ومن الطبيعي أن يقال هذا، لكن الجويني -كما قلت-: رائد من رواده، ثم يقول هذا الكلام! فهذا أمر فيه موعظة.

قال: (لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ) أي: من الحيرة والندم والافتراء (ما اشتغلت به).

ثم قال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم) بحر الكلام ومتاهاته التي لا نهاية لها، (وخليت أهل الإسلام وعلومهم)، وأهل الإسلام أهل السنة ولا شك، وعلومهم علوم الكتاب والسنة التي تقف عند النصوص فيما يتعلق بالعقائد، وهو ما خلى أهل الكلام في غير العقيدة، حيث نجد أنه في الفقه والتفسير وغيرهما سار على نهج الأئمة ونهج السلف، لكن في العقيدة خلى أهل السنة وعلومهم.

قال: (ودخلت في الذي نهوني عنه)، وهذا يدل على أنه كان هناك من يقوم بالحجة على الخلق وينهى عن المنكر، فلا شك في أنه نهي، وهذا دليل على أنه وجد من نهاه وحذره وأشفق عليه.

قال: (والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني).

نسأل الله السلامة (وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور) عقيدة الفطرة، وهذا اعتراف ضمني بأنه مع تركه علم الكلام لم يوفق لفقه عقيدة السلف على جهة التفصيل، ولو وفق لها ما شعر بهذه الحيرة، وأي إنسان يعدل عن الحق بإصرار فإنه ولو تاب قد لا يوفق لأن يرجع إلى الحق كمن عاش في أحضان الحق منذ نشأته.

لذلك ينبغي أن يحذر طالب العلم من أن يؤسس علومه على غير نهج شرعي سليم؛ فإنه يخشى عليه من أن يتأثر فيصعب عليه الرجوع، حتى وإن تاب فإنه يصعب عليه استيعاب مذهب السلف، وقد ذكرت سابقاً -ومن خلال هذه النماذج- أن كل الذين رجعوا من أهل الكلام عن الكلام وسلموا بالسنة واعترفوا لمنهج أهل السنة بأنه حق، كلهم لم يوفقوا بالرجوع إلى السنة كما كان أصحابها عليها، إنما بالتسليم المطلق والقناعة التي عليها العجائز والعوام الذين لا يدركون إلا البدهيات والأمور الفطرية العامة، وهذا اعتراف من واحد من أكابرهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015