قال رحمه الله تعالى: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق].
فناقض نفسه هنا.
قال رحمه الله تعالى: [وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور.
انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله].
في الحقيقة هذا كلام عظيم، والرائد لا يكذب أهله، وكنا نتمنى أن يعي هذه النصيحة أهل الكلام الآن من إمام من أئمتهم ممن رجع عن الكلام وتاب منه، وهذا الكلام حقيقة يكتب بماء الذهب، أعني كلام الغزالي، وليت الذين يتمسكون الآن بعلم الكلام ويمدحون أهله، ويستحسنون سبيله كبعض الكتاب المتأخرين الذين ينتصرون للمؤولة وأهل الكلام؛ ليتهم يعون مثل هذا الحكم الذي حكم به الغزالي بعد تجربة طويلة، عاش فيها غمار الكلام وخاض بحاره، بل أسهم في تأسيسه وتأييده، وبذل من الجهود والأوقات الشيء العظيم في الانتصار لعلم الكلام، ثم ينتهي بهذه النتيجة المؤلمة بالنسبة له.
فقوله: (فاسمع هذا ممن خبر الكلام) يقصد به نفسه (ثم قلاه) يعني: اختبره أتم الاختبار (بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل) في علم الكلام (إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك أيضاً إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام)، وهو التصوف وما يتفرع عنه، ثم الفلسفة أيضاً، فقد تعمق في الفلسفة، وجمع كل الوسائل التي تفيد في تأسيس علم الكلام، (وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود)، فليتهم يعون.
وليس هذا كلام الغزالي فقط، بل قاله -كما قلت سابقاً- أكابر المتكلمين الذين أسسوا علم الكلام الذي يعيش عليه المتكلمون الآن من الأشاعرة والماتريدية، كلهم قالوا بهذا النتيجة.
والعجيب أن أسلوبهم يكون في الغالب أسلوباً مؤلماً ومؤثراً ومحزناً، أسلوب الذي أضاع عمره وأشفق على الأمة أن تضيع عمرها في مثل ما فعل، كما سيأتي بعد قليل من كلام الجويني ومن كلام الرازي وكلام الشهرستاني وغيرهم، كلهم يتكلمون بحرقة وحسرة، وبكلام الناصح المشفق.
ولو تأملنا كلامه لوجدنا فعلاً أنه كلام الذي أراد النصيحة لقومه في وقته وبعد وقته، ولكن هل يعون؟! قال رحمه الله تعالى: [وكلام مثله في ذلك حجة بالغة، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق.
ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل: لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر لا المغني ولا العمد يحللون بزعم منهمو عقداً وبالذي وضعوه زادت العقد فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك].