القاعدة الخامسة: أن الشرع هو الأصل وأن العقل تابع، وهذا رد على عبارتهم: العقل أصل النقل.
وهذه عبارة باطلة، وسبب ذلك أيضاً انتكاس المفاهيم، فـ الرازي والفلاسفة والمتكلمون من قبله يقولون: العقل أصل النقل، يعني: العقل هو الأصل في فهم الشرع، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأننا لا نفهم أوامر الله عز وجل ولا نواهيه ولا نفهم أمور الغيب الواردة في الكتاب والسنة إلا من خلال العقل، إذاً: فما دام العقل هو الوسيلة فهو أصل النقل! وهذه مغالطة انطلت على كثير من صغار المتكلمين وأتباع هؤلاء الفلاسفة، والإنسان قد يغتر بهذه المقولة ويقول: نحن لا ندرك كثيراً من خطاب الله عز وجل وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر والنهي والخبر إلا بعقولنا، إذاً: العقل هو الأصل.
وهذه مغالطة بمقدمة خاطئة بنيت عليها نتائج خاطئة، فالعقل ليس أصلاً، إنما هو وسيلة، والوسيلة لا يمكن أن تكون أكبر من الغاية، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: أن العقل مرشد إلى ما هو أعظم منه، أو دليل على مدلول أعظم، ولا يمكن أن يكون الدليل أكبر من المدلول، فدليل المبصر على طلوع الشمس عينه وبصره، فالعين دلت على طلوع الشمس، فهل هي أكبر من الشمس؟! وهل هي أعظم من الشمس؟! بل لا يمكنها أن تتصدى للشمس دقائق معدودات، فإذا كانت العين دلت على الشمس فصارت دليلاً؛ فهذا لا يدل على أنها أكبر من الشمس، فكذلك إذا كان العقل قد دلنا على صحة الشرع؛ فلا يعني ذلك أنه أكبر من الشرع؛ لأن الشرع كلام الله عز وجل ووحيه، فلا يمكن أن يكون العقل المخلوق الضعيف أكبر من كلام الله وأعظم، أو حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام رسوله.
وهناك مثل واضح ضربه شيخ الإسلام ابن تيمية وأورده ابن القيم وأورده الشارح في مقام آخر، وهو مثال على أن العقل إن دلنا على معاني الشرع فلا يعني هذا أنه أكبر، وذلك أن الشرع بمثابة العالم المرجع للأمة، والعقل بمثابة العامي الذي يعرف مكان هذا العالم، فلو افترضنا أن إنساناً سأل هذا العامي فقال له: من أسأل في أمر ديني؟ فعندي مسألة في الدين.
فمن البديهي أن العاقل يقول: اسأل العالم وأنا أدلك عليه، فذهب هذا العامي بهذا السائل إلى العالم، فتبين لنا أن هناك دليلاً ومدلولاً عليه، فالدليل هو العامي الذي يعرف بيت العالم ومسكنه، والمدلول عليه هو العالم، فالسائل عندما وصل إلى العالم سأله عن أمر دينه فأخذ العالم يفتي، فلو افترضنا أن العامي قال للسائل: لماذا تسأل العالم، اسألني أنا، فقال: لماذا أسألك؟ فقال: لأني أنا الذي دللتك عليه.
فهل يصح هذا؟!
و صلى الله عليه وسلم لا.
إذاً: فكون العقل دل على النقل لا يعني أنه أعظم منه، بل هو وسيلة جعلها الله عز وجل لمعرفة الشرع.
إذاً: فلا يتأتى أبداً أن يكون العقل أعلم، والمتكلمون قالوا: إذا عارض النقل العقل قدمنا العقل.
فينبني على هذا القاعدة السادسة، وهي أنه إذا توهم أحد من الناس التعارض بين العقل والنقل؛ فإنا نقدم النقل بالضرورة، وكذلك إذا لم نفهم نص الشرع، وبعض الناس يقول: كيف نقدم الشرع في مسألة احتار فيها العقل ولم يصل إلى نتيجة؟! ونقول: إذا احتار العقل في فهم الشرع؛ فالشرع هو المقدم من باب التسليم، بمعنى أن نقول: آمنا بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه حق وصدق ولو ما فهمناه، ولا ننكص -نسأل الله السلامة- كما نكصوا، فنقول: نأخذ بالعقل وندع الشرع.