التأويل الفاسد وضرره على الدين والدنيا

قال رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين، والحرة، وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!].

توسع الشارح في مفهوم التأويل الفاسد، ويحق له ذلك، ويقصد أن التأويل إذا بدأ انفتح الباب لأهل الأهواء لتأويل كل شيء من الدين ومن مناهج السنة ومن سبيل المؤمنين، وضرب أمثلة تبدو وكأنها بعيدة في المعنى، ولكنها في الحقيقة أمثلة واقعية لمعنى التأويل على بابه الواسع، ليس في الصفات وفي العقائد فحسب، بل حتى فيما يتعلق بمناهج السنة، فضرب مثالاً بقتل عثمان رضي الله عنه، فالذين قتلوا عثمان حججهم الظاهرة لا تستهدف عثمان رضي الله عنه بشخصه، فليسوا ممن قصدوا العدوان أو التشفي الشخصي من عثمان، إنما تأولوا، وتأولهم أنهم زعموا أنه أخل بما كان عليه أبو بكر وعمر، وأنه أخل بمبدأ توزيع الأموال شرعاً، وأنه أخل بمبدأ توزيع المناصب والولايات، ثم بدءوا يعمقون هذه النقمة في القلوب حتى أغاظوا قلوب الناس على أمير المؤمنين من باب التأول وقالوا: إن أردنا إلا الإحسان وإن أردنا الخير وإن أردنا إلا الإصلاح، وكانت نهاية هذا التأول قتل عثمان رضي الله عنه وإباحة دمه على أن هذا دفع للمنكر.

ثم بعده ما جرى يوم الجمل وصفين، وهي الفتنة التي حصل فيها خلاف بين المسلمين، فكل ما حدث فيها من إراقة دماء ونحو ذلك كان بتأول، فالذين قتلوا الزبير بن العوام أو الذين قتلوا طلحة أو الذين قتلوا علي بن أبي طالب بعد ذلك متأولة يقولون: أردنا أن نريح الأمة من هؤلاء؛ لأن اختلافهم أدى لافتراق الأمة واختلافها، وهكذا الفتن أصحابها دائماً يتأولون.

ثم مقتل الحسين، ومقتل الحسين حدث فيه تأول من جهتين: الأولى: جهة أن الرافضة الذين خذلوه تأولوا أنهم يجوز لهم أن يخرجوا به على السلطان زعماً منهم أنهم بذلك يقرون الحق في الإمامة له، وأنهم بذلك يدفعون الشرور والمظالم التي كان عليها بنو أمية.

والثانية: أن الحسين رضي الله عنه بنفسه تأول في جواز خروجه بأنه يستجيز ذلك لمصلحة المسلمين، لكن هذا التأول أدى إلى غير المصلحة كما هو معلوم.

كذلك قصة الحرة، والحرة المقصود بها ما حدث من قيام أحداث وشباب أهل المدينة ضد يزيد بن معاوية مع أن شيوخهم وكبارهم نهوهم، وبعضهم كان معهم؛ لأن الفتنة إذا حدثت عمت الصالح وغير الصالح والكبير والصغير، لكن في أول أمرها لم يشارك فيها إلا بعض حدثاء الأسنان وبعض الغيورين وبعض أصحاب العواطف دون العلماء، فالعلماء نهوهم، فلما واجهوا جيش الدولة الأموية وحدث أن انهزموا انتهكت المدينة ووقع من الشر والفساد في دين الناس ودنياهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وفي عقائدهم ووقع من الفتن والافتراق والأهواء بعد هذه الوقعة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، حتى قال بعض السلف: إن المدينة منذ وقعة الحرة لم تعد هي المثال الذي يقتدى به في السنة، كان الناس يقولون في ذلك الوقت: إذا اختلف أهل العلم في شيء فانظروا ماذا يفعل أهل المدينة.

إلى أن وقعت الحرة، وبعد وقعة الحرة ذهبت ريحهم وأعمت الصالح والطالح ومن شارك فيها ومن لم يشارك، وقتل الأبرياء وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وفسد دين الناس ودنياهم، وما ذلك إلا بالتأول الفاسد من قبل الذين كانوا يقولون: إن يزيد بن معاوية فاجر وظالم، ويحدث منه كذا، ويبذر بالأموال ويفعل ويفعل، ولا يسعنا إلا أن نقوم ضده وأن نزيل المنكر، فالذي حصل ما حصل إلا بالتأويل الفاسد.

وكذلك الخوارج استحلوا دماء المسلمين جميعاً بتأويل فاسد، حيث أخذوا النصوص وطبقوها على غير وجهها واحتسبوا بذلك عند الله عز وجل، فكانوا يقتلون الصحابة تديناً، وكذلك المعتزلة ما فعلوا ما فعلوه إلا من باب التأول؛ لأنهم قالوا: علماء المسلمين لم يكن عندهم من العلم وإدراك الحقائق العقلية والفلسفية، ولم يكن عندهم من إدراك ما عليه أصحاب الملل والنحل ما يجعلهم يدفعون عن الإسلام، فقاموا بمنهج كلامي زعموا أنهم ينصرون به الدين وينصرون الحق، وكذلك الرافضة وبقية الفرق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015