قال رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وهي من أظهر الأدلة.
وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص].
يقصد بذلك أن الذين أنكروا الرؤية وقفوا من نصوص الرؤية، مثل قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ومثل قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، ومثل قوله عز وجل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في الرؤية، وقفوا منها موقف المؤولة، فأولوها وردوا النصوص الأخرى التي في الأحاديث.
ونقف عند مسألة التأويل، فهو يقصد بالتأويل أن الجهمية والمعتزلة لا يجرءون على إنكار آيات القرآن ولا على ردها؛ لأنها لم تأت بإسناد، إنما هي وحي، والله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه، فلم يجرءوا على الإنكار الصريح للآيات، وإن كان بعضهم قال قولاً يؤدي إلى ذلك، مثل قول بعضهم: إني أود أن أحك الآية الفلانية من المصحف، فهذه مجرد عواطف، لكنهم لم يجرءوا على الإنكار، وإنما جرءوا على التأويل، فهذه الآيات قالوا: ليس المقصود بها النظر إلى الله عز وجل.
وأتوا بأقوال كثيرة في المقصود بها ولم يتفقوا في المقصود، إنما فتحوا باب التأويل.
فهنا يقول لهم: إذا فتحتم باب التأويل في هذه المسائل المتعلقة بالله عز وجل والتي لا سبيل إلى القول بتأويلها؛ فتأويل غيرها مما يتعلق بالغيبيات الأخرى والسمعيات الأخرى أهون وأسهل، وإذا قلتم بتأويل الرؤية سهل على الناس أن يؤولوا حتى ما يتعلق بالجنة والنار والبعث واليوم الآخر والحساب ونحو ذلك من أمور السمعيات كالصراط والميزان، فيقول: إذا فتحنا باب التأويل فتحنا لكل مبطل -بل ولكل كافر- أن يتأول هذه النصوص على مزاجه ويقول: المقصود بالآية الفلانية كذا؛ لأن باب التأويل هو فتح لباب الظنون في الغيب، وإذا فتحت باب الظنون في الغيب لم تنغلق؛ لأن كل إنسان له ظنه، وكل إنسان يظن ويتوهم ويخطر على باله من الأوهام ومن الأشياء الظنية أشياء كثيرة، فلذلك لا يمكن أن يقال بتأويل هذه النصوص؛ لأن التأويل باطل أصلاً، وقول بالظنون والأوهام في أمور الغيب، وأمور الغيب لا مجال للظنون والأوهام فيها، ولا مجال للتخرص ولا للعقليات ولا للاجتهاد والرأي فيها؛ لأنها غيب، ولو علمها الناس وظنوا فيها ظنوناً لما كانت غيباً.
الأمر الثاني: أن من أول في أمر غيبي لزمه أن يؤول في الأمور الأخرى، ولو لم يلتزم احتج بتأويله غيره، فلذلك لما أولت المؤولة أفعال الله تعالى قال لهم الذين أولوا الصفات: إذا أولتم في الأفعال جاز لنا نؤول في الصفات، ولما أولوا الصفات قال لهم الجهمية: ما دمتم أولتم الصفات فمن حقنا أن نؤول الأسماء، فلما وصلوا إلى هذا الحد جاءت الباطنية فقالوا: ما دمتم فتحتم باب التأويل فنحن نؤول الدين كله، فالدين له ظاهر وباطن، حتى ما يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان! وهكذا انفتح باب التأويل، وهذا ما أراده الشيخ.
يقول: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل؛ لأن من تأول ما يتعلق بأفعال الله وأسمائه وصفاته ورؤيته ونحو ذلك فقد جرؤ على الله وتأول ما يتعلق بالله، فجرأته على ما يتعلق بالمخلوقات من باب أولى حتى الغيبية منها.
فهذا الرد يرد به أهل السنة على كل من تأول حتى ولو في مسألة صغيرة، يقال له: إذا فتحت التأويل فما الذي يمنع غيرك من أن يزيغ، ثم الثالث يوسع التأويل، ثم الرابع يجعل الدين كله له تأويل، فلا ينغلق باب التأويل، وليس هناك ضابط شرعي ولا عقلي قاطع يوقف الناس عند حد في التأويل، فإذا فتحوا الباب أول كلٌ على مزاجه، كالحال في أدلة الرؤية.