قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل دعوة نبوة بعده فغي وهوى): لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب.
ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين؛ فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا تظهر إمارة كذبه في دعواه.
والغي: ضد الرشاد.
والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي: أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة].
هنا يشير إلى أن دعاوى النبوة التي تأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو جاءت بما يشبه المعجزات من بعض الخوارق؛ فإنها لا بد من أن تكون كاذبة؛ لأنه لا بد من أن يتبين لعقلاء الناس ما يدل على كذب الكاذب، ومن هنا فإنه قد تظهر دعوى نبوة كاذبة ويظهر معها بعض الخوارق، أو بعض الأمور التي يراها بعض الناس وكأنها معجزة، فإن عند البشر من الوسائل -كالسحر والاستعانة بالشياطين والاستعانة بعفاريت الجن ونحو ذلك- ما يظهر للآخرين، فيتصورون أنهم يأتون بأنواع من المعجزات، وقد حدث شيء من هذا كثير، فليس المعول على مجرد جنس المعجزة؛ لأن المعجزات الكبرى والكونية لا يمكن أن تأتي لكذاب غير من جاء الخبر عنه، وهو الدجال، فـ الدجال له معجزات كبرى، لكن ورد التحذير منه وورد بيان ذلك للأمة، فكل من كان صاحب أثر من هذه الأمة فإنه لا بد من أن يعرف الدجال من الآثار والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فـ الدجال مستثنىً، فهو الوحيد الذي يأتي بمعجزات كبرى تشبه معجزات الأنبياء، والله سبحانه وتعالى هو الذي سلطه بهذا التسليط على البشرية؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وهذا أمر معلوم.
أما من عدا الدجال فلا يمكن أن يأتي بمعجزات كبرى، لكنه يأتي بخوارق وبأمور هي أشبه بالمعجزات عند كثير من البشر، لكنها مما يقدر عليه الشياطين ومما يقدر عليه الجن، وما يقدر عليه الشياطين والجن أكثر مما يقدر عليه البشر، فقد يطلع على أمر من الغيب الذي يسترق، ويطلع على أمر من عالم الشهادة الذي لا يعلمه الناس، لكن يعلمه الجن والشياطين، فكأنه غيب عند الناس.
وقد يتمادى الكذاب بعض الشيء في مسألة الخوارق فيدعي النبوة، ولكن لا بد من أن يظهر من سلوكه ومن أقواله ومن أفعاله ومن عهوده ومواثيقه ووعوده للناس ما يدل العقلاء -ولو لم يكونوا مسلمين- على أنه كاذب حتماً، فكل مدع للنبوة وإن جاءك بخوارق فلا بد من أن يظهر من تصرفاته ما يدل على كذبه، والتاريخ يشهد بذلك، فما من مدع للنبوة إلا ويظهر الله من عيوبه ومن تناقضاته ومن علامات كذبه الشيء الكثير، فيدل ذلك قطعاً على كذبه عند العقلاء، فضلاً عن المؤمنين.