لعلنا نقف وقفة تأمل عند كلام شيخ الإسلام، وهذا الكلام الذي سأقوله كثيراً ما يردده هو وغيره من أئمة السلف الأقدمين، وذلك في مسألة الاستدلال بقول المخالف فيما يوافق فيه مما عنده من حق، وأقصد بذلك أن أئمة السلف لا يمنعون من الاستدلال بقول الصوفية فيما وافقوا فيه أهل الحق، أو تقوية الحق بأقوال المتكلمين فيما وافقوا فيه الحق، أو الاستدلال بالحق الذي عند أي فرقة أخرى إذا كان يعزز قول أهل السنة والجماعة ومنهجهم، بل هو من باب إقامة الحجة على المخالفين فيما خالفوا فيه إذا أيدناهم فيما وافقوا فيه، أقصد أن المخالف إذا أخذت عنه ما وافق فيه ألفت قلبه ليأخذ عنك فيما خالف فيه، هذا من ناحية، والناحية الأخرى هي قاعدة في الإنصاف والعدل، ليست مجرد سياسة أو مجرد منهج للتقريب والترغيب، إنما هي قاعدة شرعية تقوم على العدل والإنصاف، وأقصد بها أنه إذا كان مع الخصم أو المخالف ما يوافق الحق فيجب الاعتراف له به، سواء أكان دليلاً أم قولاً أم خلقاً أم فضيلة من الفضائل، فإذا كان مع المخالف لك والمخالف لأهل السنة والجماعة دليل صحيح أو قول صحيح أو سلوك صحيح أو فضيلة من الفضائل فلا بد من الاعتراف به إنصافاً وإحقاقاً للحق، وهذا هو الذي يقرب الناس إلى الخير ويؤلفهم.
إذاً: هذا منهج لأئمة السلف، ولم يتفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان كثيراً ما يعول على هذا الأمر، حتى إن بعض طلاب العلم يعجب ويظن أن شيخ الإسلام إذا ذكر أقوال الصوفية وذكر أقوال المتكلمين فكأنه بهذا أقرهم على جملة مقولاتهم الأخرى، وأقول: هذا خلل في تصورنا وليس خللاً في منهج السلف، فـ شيخ الإسلام وغيره من الأئمة يأخذون ما يوافق الحق من الآخرين، وينصفونهم إذا تكلموا عنهم، ينصفونهم في القول عنهم وينصفونهم في الحكم لهم، والإنصاف لا يعد خضوعاً ولا يعد خنوعاً ولا يعد ترويجاً للمخالف، كما يظن كثير من صغار العقول، يظنون أنه إذا أنصف الخصم أو أنصف المبتدع أو اعترف بما لديه من فضيلة؛ فكأنه بذلك يهزم الحق أو أن في ذلك عليه أو على أهل الحق غضاضة، وهذا غلط مجانب للصواب وليس عليه أئمة السلف، إلا في حالات يقدرها أهل العلم إذا خشوا فتنة العامة بإنصاف المبتدع أو خشوا أموراً أخرى يقدرونها لا يقدرها الفرد ولا تكون ميزاناً ولا تكون قاعدة ولا تكون منهجاً، إنما هي أحكام شاذة قليلة قد يرد فيها أن يتغاضى صاحب الحق عما عند خصمه إذا تبين أن الفتنة بذلك تكبر وتكثر، وهذا نادر جداً ولا يصح أن نعول عليه ولا أن نجعله قاعدة.
إذاً: أنبه على منهج أئمة الدين في هذا الأمر، ويتلخص في أمور آخذ منها ثلاثة: الأمر الأول: الاعتراف بما لدى الخصم من الحق، وإعلان ذلك.
وبعض الناس يضيق، ولا تتحمل أعصابه أن يعترف بفضيلة الخصم، وهذا خلل، وهو أمر يجب أن نتجاوزه.
الأمر الثاني: الإشادة بجوانب الفضل عند المخالف، من مبتدع أو متكلم أو متصوف أو جماعة من الجماعات في القول أو السلوك، لا كما يحصل الآن من التراشق والنبز بالألقاب بين الجماعات والدعاة مع الأسف، حيث نجدهم لا ينصفون، فإذا تكلم المخالف عن جماعة تخالفه تجده كأنه لا يعرف إلا السيئات، مع أنه يعرف حسناتهم ويعرف فضائلهم، بل بعضهم لبس عليه الشيطان إلى حد أن يقول: الفضائل هي الأصل، فأنا يهمني أن أنقد ويهمني أن أبين.
ويدعي أن هذا هو النصح، وهذا منهج خطير، والمحكم في هذا الأمر هو الكتاب والسنة، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر اليهود والنصارى أنصفهم، وذكر أن منهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن، وذكر أن من اليهود الأمين ومنهم الخائن، وذكر أن في طوائف من النصارى رقة قلوب، وأخبر أن النصارى أقرب إلى الحق مع أنهم من المشركين، وكذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم، كان ينصف إذا تكلم، وإذا تكلم عن أهل الديانات أنصفهم وذكر ما عندهم من المحاسن ثم ذكر باطلهم، وكذلك أئمة السلف كانوا ينصفون الخصوم، بل إن الإنصاف أمر لا بد من التنويه به؛ لأن بعض الناس قد يقول: في ذهني هذه الفضائل ولا أنكرها، ونقول له: ليس المقصود أن الأمر في ذهنك، المقصود أنه إذا تكلمت فاعدل، إذا تكلمت فأنصف، وإذا قلت فاعدل، وإلا فاسكت فالسكوت خير لك، وأنا أقول: أن التنويه بأخطاء الآخرين الذين ينتسبون إلى الإسلام -حتى وإن كانوا من الضلال- دون الإشارة إلى ما فيهم من حسنات هو الظلم نفسه.
الأمر الثالث: لا بد عند الكلام عن الخصوم -كما فعل السلف- من ذكر موافقة المخالف فيما هو حق لتقوية الحق بالاتفاق عليه، وأقصد بذلك أن أئمة الدين إذا ذكروا قولاً من الأقوال في الفقه أو في العقيدة قالوا مثلاً: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، وهو قول المعتزلة والجهمية، وهو قول الأشاعرة إلى آخره، ويذكرون أئمة الضلالة لأنهم وافقوا في هذا الحق، وليس في هذا على المسلم ضير؛ لأن الحق ثابت بهم وبغيرهم، لكن كونك تقيم الحجة على أتباعهم بمثل هذا فيه تقوية للحق، فأنا إذا قلت في أي مسألة من مسائل أصول الدين: أنها قول أهل ا