قال رحمه الله تعالى: [وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته، وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك؛ لأن القدرة على الممتنع ممتنعة!].
كل هذه الفلسفة لا طائل وراءها، وهي لوازم لا تلزم عقلاً وكلها أوهام وما رتب عليها أوهام، والأوهام خطر في أمور الغيب، بل هي خطأ وانحراف، وقبل أن يبدأ بالرد أحب أن أشير إلى ضعف عقول هؤلاء وإن كان منهم من يشار إليهم بالبنان، خاصة فيما خالفوا فيه السلف.
فأقول: إن منشأ هذه الضلالة -كما أسلفت- أنهم عولوا على عقولهم في أمر الغيب، والعقول مخلوقة وقاصرة وضعيفة، فما عرفت نفسها وما عرفت كيف هي وكيف تعمل، فكيف تعرف ما يتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته؟! وما أشبه هؤلاء بالأطفال الصغار، وإن كان الأطفال الصغار أطهر منهم فطرة، لكن الأطفال الصغار أحياناً يتكلمون بخيال ويصدقون خيالهم، فالطفل إذا تحدى أحداً من الناس فربما قال: سآخذ هذا البيت وأضربك به، أو: سأحمل هذا الجبل وأرميه عليك، بل بعض الأطفال قد يقول: سأنزل عليك السماء، وبعد أن يكبر ويرشد يعلم أن هذه أوهام، أليس كذلك؟! فالمتكلمون على صنفين: منهم من يستمر في أوهامه، فيقول: هذا ممتنع في حق الله، والله يقدر أو لا يقدر، وهذا لا يتعلق بالمشيئة إلى آخره، فيتكلم بكلام هو رجم بالغيب، وكل ذلك لا أصل له في الكتاب والسنة، وما لا أصل له في الكتاب والسنة فهو رجم بالغيب، وإذا كان رجماً بالغيب فليس بحق.
فبعضهم يستمر -نسأل الله العافية- على اعتقاداته حتى يموت على ذلك.
وبعضهم يرشد كما يرشد الطفل، وهذا ثبت عن كثير منهم، بل ثبت عن مثل الغزالي وعن مثل الرازي ونحوهما ممن دخلوا في علم الكلام وكان عندهم شيء من التقوى والصلاح وقصد الخير، لكنهم فتنوا بالكلام في أول أعمارهم، فهؤلاء ثبت أنهم وصلوا إلى حد الاعتراف بأنهم ما استفادوا من الكلام إلا ضياع الوقت والجهد وضياع الدين، حتى قال الجويني: ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وحتى إن الرازي أيضاً تكلم عن علم الكلام بكلام رائع يكتب بماء الذهب، وحتى إن الغزالي انصرف وصرف نفسه وتناسى ما كتبه وما قاله وأكب على كتب السنة يريد أن يصرف ذهنه عما وقع فيه من الكلاميات وغيرها، وغيرهم كثير يعدون بالمئات من الذين رجعوا.
فإذاً كان هؤلاء من أصحاب علم الكلام قد رجعوا عنه وتابوا إلى الله وحذَّروا كل التحذير، كما ثبت عن الجويني وعن الرازي، وحذروا تحذير المشفق على الأمة من الوقوع في علم الكلام دقيقه وجليله؛ فكيف تبقى طائفة من الأمة تتبع هذا النهج وتدين به؟! فنسأل الله العافية.