قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه].
وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال: فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو؛ إذ كان لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال.
ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الوجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً يتصور هذا وحده وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج، وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.
والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات؛ لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (لا زال بصفاته)، ولم يقل: لا زال وصفاته؛ لأن العطف يؤذن بالمغايرة، وكذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية: لا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره، هو إله واحد سبحانه وتعالى، فإن قلت: (أعوذ بالله) فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه، وإذا قلت: (أعوذ بعزة الله) فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو)، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله.
وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات).
وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده ونحو ذلك؛ فهذا المراد به المسمى نفسه، وإن قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله ونحو ذلك؛ فالاسم هاهنا لمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد به أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم؛ فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى].
قوله: [فالاسم هاهنا لمسمى؛ ولا يقال: غيره] هذه عبارة صحيحة، لكن العبارة الموجودة في طبعة أخرى أسلم، والسياق يؤيد هذه العبارة، وهي قوله: [فالاسم هاهنا للمسمى]، وهو قول السلف، يقولون: لله الأسماء الحسنى، فالاسم للمسمى، الاسم الذي أطلقه الله على نفسه هو اسم لله، يقال: اسم لله، فالأفضل ألا يقال: هو غيره، ولا: هو هو، وإن كان قول: (هو هو) يطلق على ذات الله تعالى، لكنه ملبس؛ لأنه يشتبه بقول القائلين بأنه لا فرق بين أسماء الله وذاته وصفاته، وإنما هي ألفاظ لا معنى لها تدل على مسمى واحد وهو الوجود المجرد في الأذهان، تعالى الله عما يزعمون.