وبهذه المناسبة أحب أن أنبه على أمر سبق أن تكلمت عنه في أول الدروس، ومن المناسب أن أكرره؛ لأنه قد يختلط على كثير من ضعاف العلم، أو الذين ليس لهم إلمام بالعقيدة أو ليسوا متخصصين، فيحدث عندهم شيء من الإشكال، وهو التصور في الأذهان الذي لا ينبني عليه اعتقاد، فهذا أمر لا ينفك منه عاقل، فأنت إذا سمعت بكلمة (نزول) (مجيء) (استواء)؛ فإنك لا تفهم الكلمة حتى ينطبع في ذهنك تصور، فإن استقر هذا التصور وجعلته صفة لله صار هذا تشبيهاً، نسأل الله العافية.
فلذلك يجب ألا يستقر التصور، بل يجب أن تعتقد أن هذه الصفة التي تصورتها لله ما هو أعظم منها، وأن الله منزه عن التصورات والأوهام، وأن الله ليس كمثله شيء، وأن الله أعظم وأجل من أن تستقر صفاته بأذهان المخلوقين؛ لأنه لو استقرت عرفنا الكيفيات، ولا سبيل إلى معرفة كيفيات صفات الله وأفعاله، فلذلك أقول: يجب أن نفصل ما نتصوره في الأذهان عن الاعتقاد، فما نتصوره في الأذهان إنما يقرب إلى الحقائق فقط في بعض أمور الغيب، فعندما يقال لك: (جبريل) تتصور شيئاً ما عليه جبريل، أليس كذلك؟! فهذا التصور أعطاك انطباعاً بأن هذا الملك له وجود، لكن هل وجوده هو ما في ذهنك؟!
و صلى الله عليه وسلم لا.
وكذلك في المشاهدات، فلو أن إنساناً -مثلاً- قيل له: هناك مدينة اسمها: نيويورك أو موسكو أو نحو ذلك من المدن الشهيرة، فلابد من أن ينطبع في ذهنه عمارات وشوارع وأعلام وأشخاص ومؤسسات وأشكال، فهل هي الحقيقة؟ فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله أعظم وأجل من أن تنطبع في أذهان الناس عنه صفة.
قلت هذا لأن الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته ونفوا وخبطوا وخلطوا وأحرجوا المسلمين وأوقعوا الأمة في الإشكال؛ إنما وقعوا في ذلك لأنهم استجابوا لأوهامهم وتصوراتهم التي في أذهانهم، والتصورات التي في الأذهان إنما هي أوهام وليست هي الحقيقة في أمور الغيب، فالحقيقة أمر آخر لا يمكن أن يطلع عليه إنسان، ولو اطلع عليه أحد ما صار غيباً.
فالتسليم بأن الله ليس كمثله شيء سبحانه، وأن الله تعالى له الكمال المطلق، وأن الله متصف بهذه الصفة على ما يليق بجلاله به تسلم العقيدة، وإلا فلا يمكن لأحد أن ينفك من التصور، والذين خاضوا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته هم أشنع تصوراً من الذين لم يخوضوا.
إذاً: فالعبرة بما ينتهي إليه الاعتقاد لا بمجرد التصور، فأنت إذا تصورت شيئاً في أمر الغيب وجب عليك أن تعتقد أن حقيقة الغيب غيره، بمعنى: أن ما تصورته من أمور الغيب وهم في ذهنك، لكن هذا الأمر الذي ورد في النص هو حقيقة، والحقيقة تعني أنه حق موجود، لكن هذه الحقيقة نجهل كيفيتها وصورتها، وهذا هو الفارق، أما الحقيقة فلابد من اعتقادها دفعاً لقول الذين يقولون بأن هذه الألفاظ ألفاظ ليس وراءها معانٍ؛ لأنه لا يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بألفاظ ليس لها معانٍ، فذلك لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
إذاً: فلابد من الاعتقاد، لكن تعتقد الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، وأن الله ليس كمثله شيء، وما ينطبع في ذهنك من صورة إنما هو للفظ فقط لا لحقيقة اللفظ، بمعنى: أن اللفظ فقط هو الذي تستطيع أن تقربه إلى ذهنك، وإلا فالحقيقة غيره قطعاً؛ لذلك جاءت الآية بالمبالغة في نفي المشابه لله تعالى؛ لأن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، مبالغة في البعد عما يمكن أن يتوهم الإنسان ويتصوره في ذهنه.
فتصورات الخواطر قد تتعلق بالغيب، وكذلك في أمور الحلال والحرام، كما ورد في الحديث أن الإنسان قد يهم بالشيء ولا يؤاخذ عليه إلا إذا فعله أو تكلم به، فالإنسان إذا تخيل معصية من المعاصي ومالت إليها نفسه، فإن فعلها أو سعى إلى فعلها أثم، وإن تركها ولم يسع إلى فعلها فهو مأجور على طرد هذا الطارئ على ذهنه، وكذلك بالنسبة لما يتعلق بتصورات الغيب، فالإنسان لا ينفك عن أن يضع تصوراً للغيب، بل أحياناً يرد السؤال عن بعض الخصائص المتعلقة بذات الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث الصحيح.
فالإنسان عليه ألا يتمادى في هذه الأوهام، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليعلم ابتداء وانتهاء أن ما في ذهنه من أمور الغيب إنما هو أوهام ومجرد تصور للألفاظ، والحقيقة لا يعلم كيف هي في أمور الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.