قال رحمه الله تعالى: [وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال].
حلول الحوادث أيضاً هو من اللوازم الباطلة التي التزم بها المتكلمون تأثراً بمن خاصموهم من أهل الأهواء من الأمم الأخرى، ويقصد الفلاسفة بحلول الحوادث: ما يطرأ من أفعال الله تعالى مما له صلة بأسماء الله وصفاته، كقولهم: إن الله -سبحانه وتعالى- صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً؛ لأنه خلق الخلق بـ (كن) سبحانه وتعالى، فيعتبرون هذا من حلول الحوادث.
وأما المتكلمون فيعبرون عن الحوادث بمثل الاستواء وبمثل المجيء والنزول والغضب والرضا، يقولون: هذه حوادث.
وهذه كلمة مجملة، فهي حوادث بتعبيرنا، والله سبحانه وتعالى ما عبر عنها بـ (حوادث)، فهم عبروا عنها بأنها حوادث حسب تصورهم، فنظراً لأنهم يتصورون أن وجود الله سبحانه وتعالى وجود ذهني فقط؛ فإنه من الطبيعي أن من يُتصَور بهذا الشكل لا يتوقع منه أن تحدث منه تلك الأفعال.
فهذه الأفعال -كالمجيء والنزول والرضا والغضب- لا يتصور أن تحدث إلا من الكامل الذي له وجود ذاتي، وهو مستو على عرشه سبحانه، فهذا هو الذي يتصور منه المجيء والنزول، فنظراً لأنهم أنكروا الوجود الذاتي بمعناه وخصائصه اللائقة بالله سبحانه وتعالى أنكروا لوازمه من الاستواء والعلو والفوقية، ثم أنكروا لوازمه الأخرى، وبعد ذلك أنكروا الصفات الفعلية؛ لأنهم قالوا: إنها حوادث، حتى القرآن قالوا بأنه أزلي بحروفه، وأن الله لم يتكلم بالقرآن؛ لأنه إذا تكلم فهذا يعني أنه حدث منه شيء، تعالى الله عمَّا يزعمون.
ولولا أني أخشى أن يلتبس الأمر بعد طول الكلام لذكرت الأصل الثاني الذي نشأ عنه ضلال أكثر الفرق التي ضلت عن أهل السنة، خاصة الفرق التي تأخذ بالسنة في بعض الأصول، كالماتريدية والأشاعرة ومن نحا نحوهم، ولعله تأتي له مناسبة في درس قادم إن شاء الله، لكن من فهم هذه الأصول التي هي منشأ الانحراف عند المؤولة فإنه بذلك تطرد عنده القاعدة، ويستطيع أن يفسر كل خلاف خالف فيه بعض المؤولة أهل السنة، فيفسره بهذا التفسير ويكون مرتاح الضمير مطمئناً بعقيدته عقيدة السلف، وكلنا -إن شاء الله- مطمئنون، لكن يطمئن بالبرهان، لأنه إذا عرف منشأ الخطأ وأصله فسر كثيراً مما يحدث، فلا يبقى الإشكال الوارد في الذهن، وهو: كيف يقول إمام كـ الأشعري رحمه الله، أو كـ الباقلاني رحمه الله، أو كـ الجويني أو الغزالي رحمهما الله في هذه المسألة بغير الحق وهو عالم يدرك ويعرف؟! أقول: لو عرفنا منشأ الانحراف من أصله لاستطاع كثير من طلاب العلم بناءً على هذا أن يفسروا هذه الأمور بتفسيرات واضحة.
فهم يقصدون بمسألة حلول الحوادث الأفعال التي تطرأ، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن بعد أن لم يكن تكلم به، والله سبحانه وتعالى -كما ورد في النصوص الصريحة أيضاً- يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فهذا أمر سيحدث فيما بعد، وهم يقولون: لا، هذا كله ليس كلاماً، إنما هو صفة أزلية في ذات الله تعالى، والله يصنع من خلقه ما يعبر عنه بأنه كلام.
فيقولون مثلاً: الله كلم موسى، لكنه كلمه بحروف وأصوات صنعها في مخلوقاته، ولازم قولهم أن كلامه من مخلوقاته وإن لم يلتزموا به، فلذلك قالت المعتزلة بخلق القرآن؛ لأنهم زعموا أنهم لو قالوا بأن الله تكلم بالقرآن لصار حادثاً في الله، تعالى الله عما يزعمون.
وهذا كله فلسفة عقلية، وكله خوض ورجم بالغيب، فالمسلم عليه أن يسلم بما جاء عن الله تعالى، فإن فهم فهذا طيب، وإذا لم يفهم لم يطالب بالفهم الذي يعني ضرورة التخلص مما يظهر من الإشكالات، فهذا ليس بضروري، لأن المسلم عليه أن يثق بأن كلام الله حق على حقيقته، وأن ما جاء من أسماء الله وصفاته وأفعاله حق على حقيقته، لكننا لا نفهم الكيفية؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وما دام الله ليس كمثله شيء فلا سبيل إلى فهم الكيفيات، بل لا سبيل إلى الكلام في هذه الأمور بغير علم أصلاً.
إذاً: فكل ما يرد من هذه العبارات -مثل حلول الحوادث أو مثل المباينة والمفاصلة والجهة ونحوها- خبط ورجم بالغيب، وإذا كانت في حق الله تعالى فهي بدعة شنيعة لا يجوز الكلام بها، لكن قد يضطر طالب العلم المتمكن والمتخصص إلى أن يتكلم بها حينما يظهر الإشكال ويوجد في الكتب ويتكلم به المتكلمون ويظهر على ألسنة الناس، فيتكلم لإيضاح الحق وتقريره، لا للانجرار والاستجابة لفلسفة المتفلسفين.