في هذا المقطع نجد أن الشارح ركز على الرد على تصور خاطئ عند أكثر أهل الكلام، بل عند جميعهم، وهذا التصور هو الذي انبنى عليه التعطيل وانبنى عليه التأويل، وانبنى عليه الكلام في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم، بل بمجرد الأقيسة العقلية وبمجرد الأوهام، وبقياس الخالق على المخلوق، أو بمجرد التحكم وافتراض ما لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى.
أقول: منشأ هذا التصور هو أن المتكلمين قالوا في الله سبحانه وتعالى بقول الفلاسفة عن قصد وعن غير قصد.
أما ما كان عن قصد فكثير ممن دخلوا في الإسلام وكادوا له أدخلوا هذه الأفكار عن قصد، وأما ما كان عن غير قصد فإن الذي جرَّ أكثر المتكلمين إلى هذه التصورات الباطلة عن الله تعالى مجادلتهم لأهل الأهواء والأمم المعاصرة لهم في ذلك الوقت، كالسمنية والمجوس والصابئة واليهود والنصارى، وتلك الأمم كلها تنظر في تصورها إلى الله سبحانه وتعالى على أن وجوده وجود ذهني أو عقلي، أي: ليس لله ذات تقبل الاتصاف بالصفات.
فهذه فكرة الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم، وانبنت عليها كثير من التحريفات في الأديان، وانبنت عليها كثير من الفلسفات، وانبنى عليها الحوار الأساسي الذي قام بين جهم ومن جاء بعده وبين الفرق والأمم الضالة التي نشأت بين المسلمين أو كانت مجاورة للمسلمين، كالديانات الهندية.
فالذين جادلوا أولئك لم تكن إحاطتهم بالعقيدة والسنة كافية، وجرأتهم على الجدل في ذات الله وأسمائه وصفاته جعلتهم يسلمون لبعض أوهام تلك الأمم، فمن هنا تصوروا أن وجود الله -تعالى الله عما يزعمون وما يتوهمون ويظنون- وجود ذهني، ووجود كلي عام، وقد يسمونه العقل الفعال، وقد يسمونه المحيط، وقد يسمونه بأسماء أخرى، فهذا التصور أوجد عندهم هذا الخلل في جميع قضايا العقيدة وأصولها، فحينما تصوروا أن وجود الله وجود ذهني لم يتواءم هذا التصور عندهم مع الصفات التي ثبتت لله تعالى.
فإذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، بدليل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ تنافى ذلك مع تصورهم عن الله؛ لأنه كيف يستوي ووجوده عقلي ذهني؟! وكيف يستوي عندهم -كما يزعمون- وهو مجرد تصور كلي؟! فقالوا: إذاً: الاستواء له معنىً آخر، ثم سحبوا ذلك على بقية الصفات، حتى إن بعضهم لا يقر إلا بصفة الوجود لله، وبقية الصفات كلها ينكرها، ومع ذلك يخاصم حتى في هذه الصفة.
فيقال له: الوجود إذا كان في الأذهان فقط هل يكون وجوداً حقيقياً؟ إذاً: الوجود لا بد من أن يكون وجوداً فعلياً، والوجود الفعلي لا بد من أن تلزم منه صفات أخرى لهذا الموجود، فإن كان الموجود هو الخالق سبحانه وتعالى فلا بد من أن يتصف بالصفات اللازمة، ومنها: أن يكون خالقاً، وأن يكون عالماً قديراً سميعاً بصيراً، إلى آخر ذلك من اللوازم التي تلزم الوجود الكامل، وإن كان هذا الموجود هو المخلوق -وهذا ما نراه ونحسه ونشاهده- فله صفات تخصه.
المهم أنهم تصوروا هذا التصور التجريدي الذي هو في الأذهان والأوهام، وخضعوا له وقرب من أذهانهم بحسب درجاتهم، أو رضوا ببعض لوازمه، كالأشاعرة والماتريدية؛ لأنهم لا يرضون بهذا القول، فهم يعتقدون أن لله ذاتاً، لكن بعضهم يفلسف معنى ذات الله سبحانه وتعالى بما يميل إلى قول الفلاسفة، وبعضهم يفلسفه بمعنى آخر.
فهذا التصور هو الذي جعل هؤلاء يعطلون أو يؤولون؛ لأنهم تأثروا تأثراً سلبياً بالأمم التي جادلوها، وكان المفروض أن يجادلوا بالقرآن فقط، وإذا لم يكن المتكلم خاضعاً للقرآن جودل ببراهين القرآن، حتى لو لم نسمها آيات أو نسمها قرآناً، فينبغي أن يكون الجدال في الله سبحانه وتعالى ببراهين القرآن؛ لأننا لا نملك أبداً -ويستحيل أن يملك أحد من الناس- دليلاً من الأدلة على ذات الله وأسمائه وصفاته غير ما ورد في الكتاب والسنة، ولا يملك أن يضع تصوراً يلزم به الآخرين غير ما ورد في الكتاب والسنة.
إذاً: فليس هناك براهين نستطيع أن نقنع بها أو نجادل بها فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى -سواءٌ وجوده وأسماؤه وصفاته، أو عبادته وطاعته- إلا ما له أصل في القرآن، وما عدا ذلك فإنما هو خبط ورجم بالغيب، ومن شاء فليراجع أقوالهم، ولكن عافية الله أوسع له.