قال رحمه الله تعالى: [فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟!.
ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.
وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البله الذي هو ضعف العقل وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقرا) ولم يقل: البله.
والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين، ردوا باطلهم بباطل آخر، والصراط المستقيم بين ذلك].
موقف الملامية يحدث من عدة أصناف من الناس، منهم طائفة من المتصوفة، فهؤلاء بنوا فكرهم هذا على منهج خاطئ، أصله جهلهم في الدين، فترى الواحد منهم يكون له عبادة وتنسك واستقامة وصلاح، لكنه يتعمد أحياناً بأن يفعل ما يذم عليه؛ خوفاً من التزكية، أو خوفاً من الوقوع في الرياء، وهذا من عبث الشيطان بهم.
كذلك يذهب الواحد منهم إلى مكان غير لائق، ويقول كلمة فيها إثم، أو ينظر نظرة معصية، ويشهد الناس على هذا؛ من أجل أن يظهر لهم أنه لا يزكي نفسه، وهذا اجتمع فيه الجهل والرياء المركب وعبث الشيطان، واجتمع فيه أيضاً البدعة، هذا الفعل بدعة إذا اعتقده ودان به.
لكن هناك صنف آخر قد يكون من غير الصوفية، لكنه يعتقد هذا الاعتقاد، وهم بعض أصحاب الوساوس، بعض الناس عنده وسواس، هذا الوسواس يدفعه إلى أن يترك بعض السنن وبعض الواجبات أحياناً؛ خوفاً من أن يقول الناس: إنه مراءٍ، أو يفعل بعض ما يلام عليه، ويظهر في بعض المظاهر غير اللائقة أحياناً، كأنه يريد أن يؤدب نفسه؛ لئلا تقع في الرياء.
وهذا كثير من الناس في كل زمان، وإن لم يكن من أصحاب الطريقة الأولى الذين يتعبدون بذلك عن جهل، فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
والفرق بين الرياء وبين التصنع واضح، التصنع: هو أن الإنسان لا يترك النافلة والسنة إلا إذا غلب على ظنه أنه لن يقهر هواه ونفسه في إظهار الرياء، فمن هنا قد يترك أحياناً، لكن ما تكون عادة له، قد يترك بعض الأعمال الظاهرة أحياناً إذا وجد نفسه تغلبه في المراءاة، أو وجد أنه يحتاج إلى أن يدافع نفسه دفاعاً شديداً، هذا قد يحدث لبعض الناس في بعض المواقف، فإذا حدث هذا مرة لا حرج، لكن أن يكون عادة ثم يكون مدخلاً للوسواس على الإنسان، فينبغي أن يترك، وليكن طبيعياً في أموره كلها، فيما يعمله من الواجبات والسنن، أو فيما يتركه من المحظورات.
أما إخفاء الأعمال المبني على تورع أو على طلب الأجر من الله عز وجل، فهذا لا حرج فيه، مثل: إخفاء الصدقة، لكن الأصل في الأعمال الظهور، مثل: الفرائض الخمس، وشعائر الحج، والذكر، والتكبير المشروع فيه رفع الصوت، كذلك التكبير في مواسم التكبير، كعشر ذي الحجة، وفي الأعياد وغيرها، ومثل: السنن الرواتب وغيرها، وإقامتها في المسجد أصلح لبعض الناس، لأنك إذا ذهبت إلى البيت ربما نسيت أو انشغلت، والبيت مليء بالمشاغل والمزعجات وهكذا، أما إذا كان الأمر طبيعياً فلا حرج أن تصلى النوافل في البيت، لكن هناك أعمال ليس الأصل فيها الظهور، مثل: الصدقات وغيرها فلا حرج في إخفائها، بل ربما يكون أولى له أن يخفيها؛ لأن هذا أبلغ في الإخلاص.
فإذاً: مسألة إخفاء العمل راجعة إلى طبيعة العمل، فإذا كان الأصل الظهور فينبغي أن يظهره الإنسان، وإن أخفاه أحياناً بشرط ألا يكون هذا دائماً فلا حرج.