قال رحمه الله تعالى: [ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها؛ لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة، وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها؛ فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل: أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها].
الحديث الآن يتعلق ببيان الطرق التي أقام الله بها الحجة وبين بها أنه تعالى شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو سبحانه، فذكر من هذه الطرق السمع.
قال رحمه الله تعالى: [أما السمع فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات تُوقِع في الحيرة تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان ووجْدِهِ في أصول ديننا، ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم)].
انتهى من طريق السمع، والآن انتقل إلى الطريق الثانية، وهي البصر.
قال رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية].
وبعد هذه يذكر الطريق الثالثة، وهي دلالة العقل.
قال رحمه الله تعالى: [والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة، فهو سبحانه -لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة- لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43 - 44]، وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183]، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].
فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر له