قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة): وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله].
تطرق هنا لأصلين متلازمين: الأصل الأول: هو مسألة الولاء والبراء، أو الولاية والبراءة.
الأصل الثاني: وهو ملازم للأول، وهو الحب والبغض، فلا شك أن المسلم لا بد أن يكون له حال تعامله مع الناس ولاء وبراء، ومحبة وبغض، حتى مع المسلمين، وسيذكر الشارح -لكن بكلام متفرق- أن هناك ولاءً كاملاً وهناك ولاءً جزئياً، وأن هناك براءً كاملاً وهناك براءً جزئياً، والولاء الكامل فيه المحبة الكاملة والولاء الجزئي فيه المحبة الجزئية، والبراء الكامل فيه البغض الكامل، والبراء الجزئي فيه البغض الجزئي، فالولاء والبراء يتجزأان، وتجزئة الولاء والبراء وجعله درجات هو الفارق بين أهل السنة وبين الخوارج من جهة، وبينهم وبين المرجئة من جهة أخرى، فالمرجئة لا يجزئون الولاء والبراء، والخوارج لا يجزئون الولاء والبراء، فالخوارج إذا تبرءوا من مسلم أو من غير مسلم تبرءوا منه جملة وتفصيلاً، فالمسلم الذي يرتكب الكبيرة يتبرءون منه تبرؤاً كاملاً ويعاملونه معاملة الكافر، وهذا شطط وتنطع في الدين وخروج عن مقتضى السنة، وبدعة مغلظة.
وكذلك المرجئة يرون للمسلم -وإن كان عاصياً فاجراً- الولاء الكامل، وهذا أيضاً شطط وتفريط.
إذاً: فالقاعدة أن الكافر الخالص يجب البراء الكامل منه ومن كفره، ويجب البغض الكامل له ولكفره، أما من كان مسلماً وكان مرتكباً للمعاصي والآثام والبدع فإن له من الولاية بقدر ما يأتيه من الإيمان والصلاح، وله من البراءة -وكذلك البغض- بقدر ما فيه من المعصية أو الفجور أو البدعة، ما لم يخرج من الملة، فإذا خرج من الملة وجب البراء الكامل منه والبغض الكامل له.
فصاحب البدع المغلظة والآثام والجرائم والمظالم الشنيعة يغلب في حقه البغض والبراء، ومن كان دون ذلك فله من الحق وعليه بقدر طاعته ومعصيته.
إذاً: فتفصيل القاعدة في الولاء والبراء، وترتيب الولاء والبراء على درجات لا يكون إلا عند أهل السنة، أما بقية الفرق فما بين مفَرِّط ومُفْرِط.
وأؤكد على أن الحب والبغض مرتبط بالولاء والبراء، فقد يجتمع في المسلم الواحد الحب والبغض، بل أغلب المسلمين يجتمع في حقهم الحب والبغض، تحبهم في الله بقدر ما فيهم من الطاعة والاستقامة والخير، وتبغض الواحد منهم بقدر ما فيه من المعصية والانحراف، بمعنى أنه يجتمع في الشخص الواحد الولاء والبراء، وأغلب المسلمين يقعون في التقصير، فعلى هذا يشترك فيهم الولاء والبراء والحب والبغض.
قال رحمه الله تعالى: [فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]].