أحدهما: مجاز لأهل الحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم، يجيزون عليه إلا من دخل الجنة بغير حساب، وإلا من يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر المذكور، ولا يخلص منه إلا المؤمنون، الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفد حسناتهم، حبسوا على صراط آخر، خاص لهم، ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد، -إن شاء الله تعالى- لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم، التي يسقط منها من أوبقته ذنوبه، وزاد على الحسنات جرمه وعيوبه.

ويدل على هذا الصراط الثاني ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ( {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) } قال: يخلص المؤمنون من النار، فيجلسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا) .

قال القرطبي: هذا في حق من لم يدخل النار من عصاة الموحدين، أما من دخلها، ثم أخرج، فإنهم لا يحبسون، بل إذا أخرجوا بقوا على أنهار الجنة.

المراد بالورود في قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) } اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في هذه الآية على قولين: فقيل: المراد به الدخول في النار، وهذا قال به ابن عباس وجماعة، واستدلوا بقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} بعد قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فالتعبير بالإنجاء بعد الورود دليل على أنهم دخلوا، لكنهم نجوا، وأجيب بأن التعبير بالإنجاء لا يستلزم إحاطة العذاب بالشخص، بل يكفي في ذلك انعقاد أسبابه، ولو لم يهلك كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا هُودًا} {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا صَالِحًا} {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا شُعَيْبًا} ولم يكن العذاب أصابه، ولكن أصاب غيره.

ثانيا: من ناحية اللغة أن الورود في اللغة… الدليل الثاني: استدلوا باللغة قالوا: الورود في اللغة يستلزم الدخول، والجواب يرد ذلك بالحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: -وهو في صحيح مسلم- (والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: ألم تسمعيه قال {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } ) أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من النار لا تستلزم حصوله، بل تستلزم العقاب الشديد.

الدليل الثالث: استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) } وقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) } فسمى دخول النار ورودا، وأجيب بأن هذه الآيات في الكفار، ويستلزم الورود إحاطة العذاب بهم، ودخولهم من أدلة أخرى لا من نفس الورود.

القول الثاني: أن المراد بالورود المرور على الصراط، وهذا هو الصواب، ويؤيد ذلك الحديث الصحيح، الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال: ألم تسمعيه قال {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } ) أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من النار لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، ولو لم يحصل الهلاك.

ثانيا: أن من طلبه عدوه؛ ليهلكوه، ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا هُودًا} {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجينا شُعَيْبًا} ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.

ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في هذه الإجابة المذكور أن الورود هو المرور على الصراط، وعن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015