تعلق المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، وسعته، وضيقه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت يجلس، ويقعد فيه، هؤلاء الذين أنكروا عذاب القبر، ونعيمه من الملاحدة والزنادقة، ومن تبعهم من أهل الكلام كالمعتزلة، تعلقوا بشبه عقلية، حكموا فيها عقولهم قاسوا فيها الغائب على الشاهد، وقاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، فقالوا: إننا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات، ولا ثعابين، ولا نيرانا تتأجج، ولو كشفناه في حالة من الأحوال، لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق، وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره، أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرنا، فلم يزد ولم ينقص، وكيف يتسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة؟ والصورة التي تؤنسه، أو توحشه؟

وقال أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحس، يقطع بتخطئة قائلة. قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل، ولا يجيب، ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع، ونهشته الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان، ومدارج الرياح، كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها؟ وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة؟ أو حفرة من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه.

والجواب عن هذه الشبه من وجوه:

أولا: أن الرسل لم يخبروا بما تخيلته العقول، وتقطع باستحالته، ولكن الرسل يخبرون بما تحار به العقول، فإن أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر، والثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها، عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب.

ثانيا: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن، ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم الحشر وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا.

ثالثا: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل أمر الآخرة، وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته؛ وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، وهب أن النار التي في القبر والخضرة، ليست من نار الدنيا، ولا من زرع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرتها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها، وهي أشد من نار الدنيا، فلا يحس به أهل الدنيا، فإن الله -سبحانه- يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه، وتحته حتى يكون أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك الثاني في روضة من رياض الجنة، لا يصل روحها، ونعيمها إلى جاره.

خامسا: أن الله -سبحانه وتعالى- يحدث في هذه الدار ما هو أبلغ من ذلك، فقد أرانا الله فيها من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، من ذلك:

أولا: جبريل -عليه الصلاة والسلام- كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلا، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه، ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء.

ثانيا: الجن موجودون، ولا نراهم، ويتحدثون، ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم.

ثالثا: الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتضرب رقابهم، وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعونهم،.. كلامهم في غزوة بدر وغيرها.

رابعا: النخل والحنظل كل منهما يشرب من ماء واحد، ويختلف الطلع، كذلك -أيضا- مما وقع في العصر الحاضر الكهرباء،، تكهرب مَن على الأرض، ولا تكهرب من على الخشب، فهذه كلها أمور أراد الله إياها في الدنيا.

وطريقة المعتزلة في النصوص، إما أن يخطئوها من ناحية السند، أو يؤولوها من جهة المتن، كما قالوا في حديث البراء بن عازب قالوا: إنه آحاد فلا يحتج به في مسألة العقائد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015