[المسألة الثانية: ذكر حجج المخالفين والرد عليها]

[المسألة الثانية] :

سبب مخالفة من خالف -ولأجلها أورد الطحاوي هذه الجملة- من غلاة المتصوّفة وطائفة من الفلاسفة، فهؤلاء يقولون: الدعاء لا حاجة إليه وسؤال الرب - عز وجل - قَضَاءَ حاجة العبد لا حاجة إليه، وعَلَّلُوا ذلك بأمرين:

1- الأمر الأول: أنه سبحانه قَدَّرْ الأشياء وجعل لكل أمرٍ سيحصلُ قَدَرَاً مقدوراً، فإذا كان مُقَدَّرَاً فسيقع، وإن لم يكن مُقَدَّرَاً قالوا: فلن يقع، فإذاً لا حاجة إلى الدعاء ولا فائدة منه.

2- الأمر الثاني: أنهم قالوا إنَّ الله - عز وجل - عَوَّدَ خلقه وسُنَّةُ الله فيهم على أنَّهُ يعطيهم ما يحتاجون، ولم يجعل قلوبهم مُعَلَّقَة بـ: هل يأتي الأمر أم لا يأتي، فتمام إخلاص القلوب عندهم أن ترضى بما هي عليه من الحال وأن تنتظر إفاضة الله - عز وجل - لما يريده ولما يعطيه.

وهذا عندهم هو مقام الصديقين والعارفين والأولياء، وهذا الذي ذكروه لا شك أنَّ أهله انقرضوا إلا ما نَدَرْ بحيث أنه لا توجد الآن فئة تُنسب إليهم هذه المقالة.

وسبب ذلك أنَّ الرَّدَ عليهم وبيان بطلان ما قالوا واضح بيِّنْ، لأنَّ:

@ التعليل الأول الذي ذكروه وهو أنَّهُ لا حاجة إلى الدعاء لأنه إما أن يكون مُقَدَّرَاً أو غير مقدرٍ، فيُجاب عليهم ويُرد على ما قالوا بأنَّ الله - عز وجل - أَنَاطَ أشياء كثيرة جداً، بل أناط أكثر ما يُوجِدُهُ في خلقه بالأسباب المقتضية بمُسَبَّبَاتِهَا، فأناط إخراج الولد وانعقاد الحمل بأن ينزوي الرجل على المرأة {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ، لكن لا يهب إلا بسبب، وكذلك قَدَّرَ - عز وجل - أن فلاناً يمرض لكنه لم يُقَدِّرْ هذا المرض إلا -غالبا- بسبب، وكذلك هو - عز وجل - جعل فلاناً عالماً وقَدَّرَ ذلك لكن لا يكون إلا بسبب وهو أن يتعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم» (?) .

فإذاً قول غلاة الصوفية هو مصيرٌ منهم إلى نفي الأسباب ونفي النظر إليها وأنَّ الأمور بِجَبْرْ وليست منوطة بأسباب بل الله - عز وجل - يُجْبِرُ الأشياء على أن تكون على وفق ما يراد دون أن يرتبط شيء بسببه.

وهذا لا شك قدحٌ في العقل لأنه إلغاء لما يُدركه كل عقل من أنَّ الشيء منوط بسببه.

من جملة الأسباب التي أناط الله - عز وجل - بها إيقاع ما قدّر: الدعاء.

فَكَونُ العبد يدعو الله - عز وجل - يكون الدعاء سبباً في حصول ما قَدَّرَ الله - عز وجل -، فيكون ما قَدَّرَهُ الله - عز وجل - لا يقع إلا بعد وجود السبب، كما أنَّ الحمل لا ينعقد إلا بعد وجود السبب.

بل الدعاء في الحقيقة أعظم أنواع الأسباب لأنَّ به يحصل إِمْدَادْ الله - عز وجل - في كلّ شيء ونفع الرب - عز وجل - بكل سبب يعمله العبد، فالدعاء أعظم أنواع الأسباب.

@ أما التعليل الثاني: فإن ذاك مبني على أنَّ حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحالة الصحابة رضوان الله عليهم ليست هي الحال الكاملة؛ بل كيف ينظرون إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الدعاء لنفسه ولأهله ولأمته صلى الله عليه وسلم، بل أرشد الصديق وعمر إلى أن يُعْظِمُوا الرّجاء والدعاء وهذا يدل على أنَّ حال الكاملين بأن يتعرضوا لدعاء الله - عز وجل -، فكم دعا النبي صلى الله عليه وسلم من دعاء في صلاته في آخر الليل وفي أوقات الإجابة صلى الله عليه وسلم، وهذا لأنه أعرف الناس وأعلم الناس بربّه - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه.

أما قول الفلاسفة، فالفلاسفة أنواع:

- منهم من يوقن بنفع الدعاء؛ لكنهم يقولون: إنَّ الدعاء ينفع لأنه يؤثِّرُ فيما عقدته الأفلاك، لأنَّ عندهم أنَّ الأثر للفلك الثامن الذي يؤثر في مجموعة الأفلاك، فينقل فيها التأثيرات التي تؤثر على سلوك أهل الأرض وما يكون في الأرض.

- ومنهم من يقول الدعاء أصلاً لا ينفع لأنَّ الأمور بنظام، وكل شيء يقع على مقتضى الطبيعة، والدعاء ليس سبباً طبيعياً، وهذا قول الملاحدة منهم، وظاهِرٌ فيه أنهم لا يؤمنون بحال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015