يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله - عز وجل - من غير ما ذنب ولا جرم جرى.
هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم - جل جلاله - وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة:
بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله - عز وجل -، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله - عز وجل - ورحمة ونعمة أفاضها عليهم بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال - عز وجل - {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53] ، فمِنْ حَقِّهِ - عز وجل - على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله - عز وجل - التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه - عز وجل - أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذاً سيمضي حياته في شكر الله - عز وجل - على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك؟
لا تسع ذلك.
ولهذا تأمل مع هذا قول الله - عز وجل - لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (?) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] .
وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه صلى الله عليه وسلم «أفلا أكون عبداً شكوراً» (?) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله - عز وجل - من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه - عز وجل -.
وتأمل أيضاً ما عَلَّمَهُ - صلى الله عليه وسلم - الصديق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك» (?) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم، «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» لم؟ هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر؟
حاشا وكلا.
هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد؟
حاشا وكلا.
هل ظلم أبو بكر رضي الله عنه بالتقصير في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير؟
حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ والله - عز وجل - وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلماً كثيراً؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر.
فلو حاسَبْ الله - عز وجل -العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب ومرفوعين إليه - عز وجل - وأنهم من المنيبين وأنهم من المهتدين لما قامت حيلة العبد ولما قام إيمانه ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله - عز وجل - «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (?) .
فإذاً ننظر إلى قوله «لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم» لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذاً هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه.
بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائماً واستغفاره فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرا مجددا؟
فإذاً لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله - عز وجل - تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير.
وهذا المؤمن الحق دائماً يقول مُحَقِّراً نفسه، عسى الله أن يتغمدنا برحمة منه وفضل ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل، وانظر إلى كلام أبي بكر رضي الله عنه في دعائه.
فكيف حال المغرورين الجهلة والمذنبين من هذه الأمة الذين لا يرون أثراً لذنوبهم ولا لإعراضهم؛ بل إذا فعلوا القليل مَنُّوا وأدْلَوا على الله - عز وجل - به وهذه حال من لم يُوَفَّقْ.
أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى.
هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء.
نختم بهذا، وهذه المسائل التي ذكرت مختصرة جدا، وإلا فبحوث القدر كثيرة، ولا نريد منكم أن تتوسعوا أكثر إلا فيما شملته العقيدة الواسطية وشملته العقيدة الطحاوية، ففيهما بركة؛ لأنَّ كثرة الخوض في القدر مُلْبِسَة إلا بعلمٍ راسخٍ في الكتاب والسنة.
في الختام أسأل الله - عز وجل - لي ولكم التوفيق للصالحات وأن يرحمنا برحمته وأن يوفقنا إلى طاعته.