[المسألة الأولى] :
قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ) إلى آخره، أخَذَهُ من قول الله - عز وجل - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، فوصفهم الله - عز وجل - بأنهم حَفَظَة علينا وبأنهم كرامٌ وبأنهم كتبة، والآيات التي تَدُلُّ لهذا الأصل متعددة -يأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى-.
لكن هاهنا على هذه الآية وعلى لفظ الطحاوي رحمه الله: وَصَفَ الله - عز وجل - الملائكة هؤلاء:
- الوصف الأول: بأنهم حَفَظَة على ابن آدم.
- الوصف الثاني: بأنهم كَتَبَة.
- الوصف الثالث: بأنهم يعلمون ما تفعلون.
@ أما الوصف الأول: وهو أنهم حَفَظَة على ابن آدم فَفَرْقٌ ما بين أن يكون حافِظَاً على ابن آدم وما بين أن يكون حافظاً لابن آدم -وسيأتي بيان الفرق في المسائل التي بعدها-، ففي هذه الآية أنهم حَفَظَة على ابن آدم؛ يعني يحفظون على ابن آدم ما يصدر منه.
@ ثُمَّ وَصَفَهُم بوصف ثانٍ: أنهم إذا حَفِظُوا على ابن آدم ما صَدَرَ منه فإنهم يكتبونه في صحُفْ عندهم بأيدي الملائكة، والملك مُوَكَّل بكتابة الحسنات والملك الآخر موكّل بكتابة السيئات.
فإذاً الكتابة منقسمة إلى كتابة للحسنات في صحف والكتابة للسيئات في صحف.
@ الوصف الثالث: أنَّهُ قال {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، والفعل الذي يفعله ابن آدم:
- يكون بقلبه فيشمل أعمال القلوب.
- ويكون بلسانه ويشمل ما يُحَرِّكُ به لسانه ولو لم ينطق به.
- ما يعمله بجوارحه المختلفة من الأيدي والأرجل والفرْج واللسان إلى آخره، فكل ما يعمله بجوارحه أيضاً تَعْلَمُهُ الملائكة.
هذه دلالة الآية.
هل يُكْتَبُ هذا كله؟
ظاهر الآية أنَّ هذا بأجمعه يُكْتَبْ.
وآية سورة (ق) فيها قول الله - عز وجل - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
{رَقِيبٌ} يراقبه.
{عَتِيدٌ} يعني مُعَدٌّ للحفظ عليه ولمراقبته، فكل شيء -يعني مما يلفظه- يُعْلَمْ فَيُكْتَبْ.
ودلالة آية الانفطار هذه تشمل الأصناف الثلاثة، وهذا هو الصحيح أنَّ الملائكة تكتب أعمال القلوب؛ لأنها أفعال، وتكتب عمل اللسان ونطق اللسان، وتكتب عمل الجوارح؛ وذلك لأنَّ عمل القلب منه ما هو واجب وهو إخلاصه ونيته وتوكله على الله وخوفه ورجاؤه ونحو ذلك، من أعمال القلوب، وهي أعظم العبادات التي يتعبد بها المرء رَبَّه هذه العبادات الجليلة.
ثُمَّ من أعمال القلوب ما يكون من باب إتيان السيئات مِنَ: الهم، أو إرادة السيئة والعزم عليها، أو من المنهيات من سوء الظن بالمسلم، أو سوء الظن بالله - عز وجل -، أو نحو ذلك من الكِبْرْ إلى آخره من المنهيات.
والملائكة يعلمون هذا كله.
وعِلْمُهُمْ به، هل هو لقدرتهم عليه ذاتاً؟ أو لأنَّ الله - عز وجل - أقْدَرَهُمْ عليه لأنهم مُوَكَّلون بهذا الأمر؟
الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ الملائكة ليس لهم سلطان على ابن آدم ولا علم بالغيب، وإنما الله - عز وجل - أقْدَرَ هذا الصنف من الملائكة بخصوصه على الإطلاع لأنهم موكلون بالكتابة، والقلب يُحَاسَبْ عليه الإنسان واللسان يُحَاسَبْ عليه وكذلك الجوارح يحاسب عليها.
فإذاً كل هذه تُكْتَبْ وحتى ما يكون من قبيل الهَمِّ الذي يَهُمْ به الإنسان فإنه يُعْلَمْ ويُحفَظْ، ثم هل يُكْتَبُ عليه أو يُكْتَبُ له؟
هذا فيه البحث المعروف لديكم في أنّ «الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (?) والمقصود بـ (ما حدّثت به أنفسها) ما هو من قبيل الهم أو من قبيل الوسوسة أو من قبيل حديث النفس؛ لكن إذا انْتَقَلَ الهم أو حديث النفس إلى العزم والإرادة على الشرّ صار مُؤَاخَذاً عليه، إذا انتقل حديث النفس أو الهم هذا إلى شرف المكان وهو مكة فإنه يُؤَاخَذُ عليه في قول بعض أهل العلم وهكذا.
فإذاً {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} هذه عامة يمكن أن يُسْتَثْنَى منها ما تجاوز الله - عز وجل - لهذه الأمة عنه والباقي على عمومه.
وهذا مما يُعْظِمُ الخوف من حركات العبد وفي قلبه ولسانه وجوارحه، ويُعْظِمْ عند العبد المؤمن شأن الاستغفار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْسَبُ له في المجلس الواحد أنه يستغفر ويتوب إلى الله مائة مرة؛ لأجل عِظَمْ ما يفعله وما تَعْلَمُهُ الملائكة، فإنَّ أشباهنا أعظم وأعظم وأعظم حاجة إلى كثرة الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله - عز وجل -.