[المسألة السادسة] :
الفُرْقَةْ هنا بمعنى الافتراق، والفُرْقَةْ أكثر النصوص في النهي عنها.
والأمر بالجماعة معه النهي عن الفرقة لأنه لا يجتمع الناس إلا إذا انتهوا عن الافتراق والفُرْقَةْ.
ولهذا كما قَدَّمْتُ لك بعض الآيات نَهَى الله - عز وجل - عن الافتراق فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، دَلَّتْ هذه الجملة من الآية على أنَّ النهي عن الفُرْقَةْ هنا المقصود به الفُرْقَةْ في الأبدان، ثم قال - عز وجل - {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، وهذه الفُرْقَة في الدين، وهذا كما في قوله مثلاً في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، يعني في الدين.
فتحَصَّلَ من هذا أنَّ الأدلة دَلَّتْ على أنَّ الفُرْقَةْ قسمان:
- فُرقة في الأبدان.
- وفُرقة في الدين.
مُقَابِلَةٌ للجماعة التي هي:
- جماعة في الدين.
- وجماعة في الأبدان.
فكذلك الفُرْقَةْ فُرقة في الدين وفُرقة في الأبدان.
@ أما فُرقة الدين: فتكون بانتحال الأهواء والأخذ بطريقة أهل الهوى من الخوارج فمن بعدهم.
وأعظم أهل الأهواء الخوارج -يعني ممن خَرَجَ على الصحابة-، ثُمَّ بعد ذلك إلى أن أتت الأقوال الكُفْرِيَة عند الجهمية والحلولية إلى آخره.
وهذا أعظم افتراق في الدِّيْنْ، فإنّ الله - عز وجل - جعل الدين واضحاً لا لَبْسَ فيه، في أصوله وعقائده وفي قواعده العلمية لا لَبْسَ فيه، ولهذا قال - عز وجل - {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ (?) بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .
: [[الشريط السادس والثلاثون]] :
فإذاً كل أنواع الافتراق التي حدثت إنما كانت لأجل الهوى، ولذلك سُمُّوا أهل الأهواء.
هل وجود المتشابه في القرآن والسنة يُعْتَبَرُ سبباً في خروج أهل الأهواء؟
الجواب ليس كذلك؛ لأنَّ الله - عز وجل - بيَّنَ أنَّ أهل الأهواء في قلوبهم زيغ قبل أن ينظروا إلى الأدلة، فقال - عز وجل - {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، قال سبحانه في أول الآية {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فبيَّنَ - جل جلاله - أنَّهُ جَعَلَ كتابه منه محكم ومنه متشابه، يعني يشتبه على المرء العلم به.
ما الذي حصل؟
أنَّ الذين في قلوبهم زيغ اتَّبَعُوا قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} فأَثْبَتَ الزيغ في قلوبهم ثم وصفهم باتباع المتشابه.
فإذاً المتشابه في الكتاب والسنة ابتلاء ليظْهَرَ أهل الأهواء من أهل السنة والجماعة، فحُصُولُ الهوى والزيغ في القلب ينتج عنه أن يبحَثَ عمَّا يُؤَيِّدُ به هواه ويُؤَيِّدُ به زيْغَهُ، وهذا ما نصت عليه الآية قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} بالفاء الترتيبية.
ولهذا قال الأئمة (إنَّ أعظم ما أمر الله - عز وجل - به الاجتماع، وأعظم ما نهى الله - عز وجل - عنه الافتراق) ؛ لأنَّ حقيقة الاجتماع اجتماع في الدين وفي الأبدان وبهما صلاح العباد، وأعظم المصائب الافتراق وبهما يحصل البلاء كله.
فالشرك فُرْقَة، والتوحيد جماعة.
والبدعة فُرْقَة، والسنة جماعة.
والعقائد الصحيحة جماعة، والعقائد الفاسدة فُرْقَة.
الاستدلال بالكتاب والسنة وصحة منهج التلقي جماعة، والاستدلال بالأهواء والعقول وما ألْفَ المرء آباءه وأقوامه عليه فُرقَة؛ لأنّه خالف المنهج الصحيح في الاستدلال.
الاجتماع مع جماعة المسلمين وأئمتهم جماعة، والافتراق وترك أئمة المسلمين وجماعتهم فُرقة.
وهكذا، فكل خير في الجماعة والسنة، وكل شر في الشذوذ والخلاف والفُرقة.