[المسألة الأولى: الأدلة من القرآن والسنة والنظر على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، وأن الذنوب تؤثر في الإيمان]

[المسألة الأولى] :

دليل أهل السنة والجماعة على أنَّ من أصاب ذنباً من أهل القبلة فإنه لا يُكَفَّر دلَّ على ذلك جملة أدِلَّةْ من الكتاب والسنة:

1- منها قول الله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، ومعلومٌ أَنَّ القاتل داخل في هذا الخطاب في النداء بالإيمان، وقال - عز وجل - بعدها {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] ، فَسَمَّاهُ أخاً له، فدلَّ على أنَّ حصول القَتْلِ على عِظَمِهِ لم يَنْفِ اسم الإيمان.

2- كذلك قوله - عز وجل - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9-10] ، فَسَمَّاهم مؤمنين وسَمَّاهُمْ إخوة أيضاً ووَصَفَهُمْ بالأخوة، فدل على أنَّ وقوع القتل منهم لم ينفِ اسم الإيمان، مع قوله - عز وجل - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ، فأثبت له جهنم وعيداً، وغَضِبَ الله - عز وجل - عليه واللعنة، ومع ذلك لم ينف عنه اسم الإيمان.

فدلَّ على أنَّ وقوع الكبيرة من المسلم لا يسلب عنه الإيمان، ووقوع الذنب ليس مُبِيحاً لإخراج هذا المذنب من أصل الإسلام إلى الكفر.

3- ويدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره حينما أوتي برجل من الصحابة يقال له حمار شرب الخمر فجلده، ثم شربها ثانية فأُتِيَ به فجلده، ثم لما أتي به الثالثة قال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال نبينا صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا ذلك فإنه يحبّ الله ورسوله» (?) ، فدلّ على أنَّ وجود المحبة الواجبة لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم مع حصول الكبيرة مانِعٌ من لَعْنِهِ، وهذا يعني أنها مانع من تكفيره ومن إخراجه من الدين من باب الأولى.

4- كذلك قال الله - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ، فناداهم باسم الإيمان مع حصول الذنب منهم وهو الإلقاء بالمودة إلى عدو الله - عز وجل - وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنَّ إلقاء المودة لأمر الدنيا ليس مُخْرِجَاً من اسم الإيمان؛ بل يجتمع معه قال تعالى في آخر الآية {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] .

5- في قصة حاطب بن أبي بلتعة في إسراره للكفار بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على وقوع الذنب منه وعلى مغفرة الذنب له لأنه من أهل بدر، قال عليه الصلاة والسلام في حقه «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» (?) وفي الرواية الثانية «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (?) .

والأدلة على هذا الأصل عند أهل السنة والجماعة كثيرة.

6- ومما يدل عليه من جهة النظر: أنَّ الكبائر كالسرقة والزنا وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك شُرِعَتْ لها الحدود، والحدود مُطَهِّرَةْ، والمرْتَدُّ يُقْتَل على كل حال، ووجود الحدود هذه دليل ظاهر على أنَّهُ ارتكب فعلاً لم يُخْرِجْهُ من الملّة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من بدّل دينه فاقتلوه» (?) ، وقال «والتارك لدينه المفارق للجماعة» (?) يعني ممن يحلّ دمه، فدل على أن وقوع هذه الذنوب من العبد تُطَهَّرُ بهذه الحدود وليست كفراً؛ لأنها لو كانت كفراً لكان يُقْتَلُ ردةً لقوله «من بدّل دينه فاقتلوه» .

7- ويدلّ عليه أيضا أنَّ ولي الدم في القتل يعفو، له السلطان إن شاءَ عَفَا وإنْ شَاءَ أخذ، قال - عز وجل - {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] ، قال {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} وهذا يدلّ على أنَّ الحق هنا للمخلوق، وأما الرِّدَة فهي حق لله، يعني أمَّا الردة فجزاؤها حق لله - عز وجل - ليس لولي المقتول.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015