وهذا التفويض -تفويض المعنى- حيث يقول لا نعلم معنى الصفات، هذا موجود عند الأشاعرة من بعد أبي الحسن الأشعري إلى وقتنا الحاضر، وهو أيضا الذي راج على جملة من الحنابلة في كتبهم.

حيث ظنّوا أنّ ذمَّ الإمام أحمد لمن فوّض أنه تفويض الإثبات في أصله.

يعني يقول لا ندري نثبت أو لا، لا ندري الصفة موجودة أو ليست بموجودة أو نفي الصفة من أصلها، وفهموا أيضاً من قول الإمام أحمد وقول الشافعي ونحو ذلك (لا كيف ولا معنى) -يعني في الصفات- مثل ما ساقها صاحب لمعة الإعتقاد، فهموا منه أنَّهُ التفويض، وفهموا أيضاً من قول الشافعي (نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه التفويض.

هذا التفويض في الحقيقة تفويض المعنى هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال فيه غيره أيضا (إن التفويض هو شر المذاهب) وذلك لأنّ تفويض المعنى يرجع إلى عدم العلم به، ولهذا صنفهم ابن تيمية في أول درء التعارض: إلى أنَّ من فوّض فهو من أهل التجهيل، يعني الذين يقولون إنه لا يوجد أحد يعلم معنى الصفات، ما يوجد أحد، الصحابة يعلمون؟

لا، هذه المعاني مجهولة حتى إن بعضهم يقول حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم هذه المعاني، إنما هو إثبات ألفاظ دون معاني لها، فنفوض المعنى لأنه لا معنى معقول من هذه الصفات.

ولاشك أنَّ مذهب المفوضة هو شر المذاهب؛ لأنه يقتضي تجهيل الصحابة رَضِيَ اللهُ عنْهُم بل يقتضي أنَّ في القرآن كلاماً وآيات كثيرة لا أحد يعلم معناها، ومعلوم أنَّ أكثر القرآن في الغيبيات ولذلك جاء أول آية في القرآن في امتداح الذين يؤمنون بالغيب يعني في سورة البقرة {الم (?) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (?) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-2] ، والإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بالكيفيات والله - عز وجل - أعلم بها، والإيمان بمعاني ما دلنا ربنا - عز وجل - به على الغيب، نؤمن بها على ظاهرها؛ يعني على ما دلت عليه لغة العرب.

نعم معلوم أنَّ المعاني في الشيء الواحد تتفاوت، فمثلاً إذا أخذت السمع، إذا أخذت البصر، إذا أخذت القوة، خذ القوة مثلا والقدرة، الكائن الضعيف، النملة لها قوة ولها قدرة ولها نطق ولها سمع ولها بصر، فأصل القوة موجود فيها؛ يعني معنى القوة موجود فيها، ما هو أعلى منها في الخِلْقة من جهة مثلاً الهرة موجود عندها قوة، لاشك موجود عندها، بصر موجود عندها سمع، موجود عندها قدرة على أشياء، خذ الأعلى منها الأعلى إلى أن تصل إلى الإنسان إلى أن تصل من الحيونات إلى ما هو من جهة القوة والقدرة أقوى من الإنسان يعني بذاته يعني من جهة الحوانات المفترسة كالأسد ونحو ذلك.

إذاً القوة قدر مشترك، القدرة قدر مشترك؛ لكن نقول إنه مادام أنها في النملة مختلفة عن الإنسان، نقول: لا فالإنسان ماله قوة لأنَّ قوة النملة هذه، هذا تحديد للصفة ببعض أفردها، ببعض من يتصف بها وهذا جناية على المعنى الكلي؛ لأنَّ اللغة العربية كليات، فيها كليات المعاني، أما الذي يوجد في الخارج فيه الذوات نعم نقول جدار جبل يد أشياء هذه تتصورها؛ لكن من جهة المعاني، المعاني تتصور هذا المعنى بالإضافة إلى من اتصف به.

ولهذا شيخ الإسلام انتبه لقوة هذا المعنى في الرد في المبتدعة الصفاتية والجهمية وغيرهم، فقرَّرَهُ في كتابه التدمرية كما تعلمون.

إذاً فتفويض المعنى، المعنى أصلاً متفاوت فإذا فوضنا المعنى معناه أننا لا نعلم أي قدر من المعنى، وهذا لاشك أنه نفي وجهالة بجميع دلالات النصوص على الأمور الغيبية، وهذا باطل؛ لأنَّ القرآن حجة، وجعله الله - عز وجل - دالاً على ما يجب له - عز وجل - وما يتّصف به ربنا سبحانه وتعالى من نعوت الجلال والجمال والكمال.

التفويض يحتاج إلى مزيد بسط؛ لكن يمكن أن ترجعوا إليه في مظانه، وكثير من العلماء فهم وظنْ أنَّ مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والسلف هو التفويض، حتى إنهم ينقلون كلام شيخ الإسلام ويحملونه على الفويض مثل السَفَّارِيني ومثل مرعي بن يوسف في أقاويل الثقات، وجماعة من المتأخرين ينقلون كلام شيخ الإسلام وفهموا أنَّ مذهب الإمام أحمد ومذهب شيخ الإسلام ومذهب السلف الذي هو أسلم أنه التفويض، وهذا ليس بصحيح، إذا كان المقصود تفويض المعنى بحيث إنه لا نعلم معنى استوى، لا نعلم معنى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، إيش معنى العلي؟

نقول لا نعلم معناها؟؟

لا نعرف العلو، ما نعرف هنا العلي، قد يكون بمعنى الرحيم، قد يكون بمعنى القدير، فهذا تجهيل وجهالة؛ بل ربما آل إلى الطعن في القرآن..

س3/ ما الفرق بين الهداية والتوفيق عند أهل السنة وهل بينهما عموم وخصوص بيّنوا لنا ذلك؟

ج/ الهداية لفظ يشمل الدلالة على ما فيه أو ما الحاجة إليه، أنت محتاج إلى طريق تحتاج إلى من يهديك الطريق، تحتاج في مسألة إلى إيضاح، تحتاج من يهديك في هذه المسألة، فأصل الهداية الدلالة، فيها دلالة وإيضاح.

في القرآن العظيم جاءت الهداية في مواضع كثيرة، وقسَّمَهَا أهل العلم إلى أربعة أقسام، يعني على ما جاء في القرآن: (?)

: [[الشريط الثاني والعشرون]] :

1 - النوع الأول: الهداية الغريزية (?) وهي هداية المخلوق إلى ما فيه بقاء حياته وحُسْنِ معاشه، والدليل على هذه المرتبة قوله - عز وجل - {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ، يعني هَدَاهُ إلى ما فيه مصلحته في دنياه، إلى آخر ذلك.

فالله - عز وجل - هَدَى الرضيع كيف يلتقم الثدي ويحتاج إليه، وهَدَى الطائر لمصلحته، وهدى الحيوان لمصلحته، إلى آخر ذلك.

2 - النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد؛ دلالة وإرشاد من آخر لما فيه مصلحة العبد في دنياه أو في آخرته أو فيهما معاً، وهذه هي الأكثر في القرآن، الهداية بهذا المعنى، وهي هداية الدّلالة والإرشاد، وهي التي جاءت في مثل قوله - عز وجل - {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، يعني دالْ يدلّهم على الطريق.

3 - النوع الثالث: هداية التوفيق وهي أخصُّ من التي قبلها، وهذه خاصة بالله - عز وجل -، وهو الذي يُوَفِّقْ ويُلْهِم، فالرسل هُدَاة بمعنى أنهم يَدُلُّونَ ويُرْشِدُون؛ لكن هداية التوفيق هذه من الله - جل جلاله - {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] ، هذا حصر التوفيق من الله - عز وجل - دون ما سواه، لهذا نفاها ربنا - عز وجل - عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، فنَفَى عنه الهداية في هذه الآية وجعلها لله - عز وجل - مع إثباتها لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله - عز وجل - {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52-53] .

فالنبي صلى الله عليه وسلم يَهْدِي ولا يَهْدِي.

يَهْدِي بمعنى أنه يَدُلُّ ويُرْشِدْ ويُعَلِّمْ إلى آخر هذه المعاني، ولا يَهْدِي بمعنى هداية التوفيق لا يُوَفِّقْ بل الذي يُوَفِّقْ ويُعِين العبد ويَصْرِفْ عنه السوء، ويُعِينُهُ على الطاعة ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي -بمعنى حتى يستقيم على أمر الله-، هذا رب العالمين - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.

4- النوع الرابع: الهداية التي جاءت في سورة محمد وهي هداية أهل النار للنار وهداية أهل الجنة للجنة، فهداية أهل الجنة للجنة في قوله - جل جلاله - {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4-5] ، هذه الهداية وقَعَتْ بعد القتل، وما بعد القتل الهداية إلى أيّ شيء؟

هداية إلى الجنة، لهذا قال بعدها {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5-6] ، قال العلماء: يهديهم يعني إلى صراط وإلى طريق الجنة، وهداية أهل النار إلى النار كقوله في سورة الصافات {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:23-24] .

إذاً تَبَيَّنَ من هذا أنَّ التوفيق مرتبة من مراتب الهداية، والذّي يتصل بالإيمان بالقضاء والقدر وفعل العبد من هذه المراتب المرتبتان الثانية والثالثة -هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق والإلهام-، ولذلك شاع عند العلماء أن الهداية قسمان:

- هداية دلالة وإرشاد.

- وهداية توفيق وإلهام.

لأنَّ هذين النوعين هما اللذان نحتاج إليها في أعظم المسائل المتعلقة بالهداية وهي مسألة القضاء والقدر والهداية والضلال، أما الهداية العامة، وهداية أهل الجنة للجنة وهداية أهل النار للنار هذه مُتَفَقْ عليها معلومة عند الجميع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015