[المسألة الثالثة] :
هذا التأويل الأخير هو الذي به تسلَّط (?) [.....]
[.....] وأوَّلوها بالتأويلات.
فنصوص الرؤية حَرَّفُوهَا وسَمَّوا تحريفهم تأويلاً.
ونصوص إثبات الصفات من الوجه واليدين والرحمة والرضا من الصفات الذاتية والصفات الفعلية جميعا حَرَّفُوهَا وسمَّوا تحريفهم لها تأويلاً.
وهذا هو الذي أراده الطحاوي بقوله (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكُ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ) ؛ لأنَّ تأويلهم له كان باطلاً، وحقيقة التأويل أن يُتْرَكْ التأويل.
يعني التأويل المطلوب شرعاً أن يُترك التأويل، وهذا يحتاج على تطبيق.
فالتعريف، عَرَّف الأصوليون التأويل بأنه صرف اللفظ -يعني الذي جاء بالدليل- عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة.
هنا القرينة لابد أن تَدُلَّ على أنَّ الظاهر غير مراد حتى يُمكن أن يُصرَفْ اللفظ عن ظاهره لأنّ الظاهر هو الأصل.
فإذا أردنا أن نُؤَوَّلْ الظاهر لابد من قرينة.
هذه القرينة هي التي بها قلنا الظاهر غير مراد.
فأتوا بهذه القرينة وسَلَّطُوهَا على نصوص الصفات.
فقالوا في الرؤية مثلاً: الرؤية ظاهرها يقتضي التجسيم، يقتضي التحيز، يقتضي التشبيه - رؤية الرب - عز وجل --، يعني أنَّهُ يكونُ مُتَحِيِّزَاً حتى يمكن أن يراه الناس، لابد أن يكون في جهة حتى يمكن أنَّ الناس يروه، لابد أن يكون في مقابلة العينين حتى تراه العينين، وهكذا.
فلَّمَا كانت هذه القرينة العقلية عندهم وهي أنَّ الله - عز وجل - لا يشبه المخلوق ولا يماثل المخلوق، قالوا: إذاً الرؤية تُؤَوَّل لأنَّ معناها الظاهر غير مراد قطعاً؛ لأنَّ فيه تمثيلاً وتشبيهاً لله بخلقه.
وهذا ينطبق على جميع الصفات، فيمكن أن تُطَبِّقْ هذه القاعدة على كل ما أُوِّلَ من النصوص في الصفات والأمور الغيبية سواءً كان في الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية.
ونناقش هؤلاء -وأنا أريد منكم أن تتابعوا معي؛ لأني أريد كلمة مهمة لبناء ما بعدها عليها-:
هؤلاء جاءوا بشيءٍ سَمَّوهُ قرينة فحَكَّمُوهُ على النص، فسَمَّوا هذا الذي فَعَلُوهُ تأويلاً.
ونحن بقاعدة الأصوليين -بتعريف الأصوليين- نناقشهم، هل طبقتم التأويل حقا؟ أم أنكم عملتم شيئاً سَمَّيتُمُوهُ تأويلاً؟
القاعدة ما عليها غبار، القاعدة صحيحة.
فنقول هنا (صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة) :
لصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لابد أن يكون الظاهر الذي صُرِفَ عنه معلوم المعنى حتى نصرفه إلى غيره؛ ونقول هذا الظاهر الأول غير مراد لأنَّهُ لا يصلح، حتى يمكن أن نصرفه.
وهذا في التقعيد واضح.
صفات الرب - عز وجل - في ظاهرها المتبادِرْ منها أصل المعنى، وليس ظاهراً في الكيفية وليس ظاهراً في كل المعنى.
إذاً فعندنا في النص ثلاثة أشياء:
- عندنا أصل المعنى الذي نفهم به، نفهمه من اللغة.
- وعندنا كمال المعنى، تمام الصفة، كمال معنى الصفة.
- وعندنا ثالثا الكيفية.
فإذاً ظاهر النص مشتمل على أصل المعنى؛ يعني على إثبات الصفة من حيث الوجود، صفة الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا فيه إثبات صفة الرحمة؛ لكن ما هو كمال معنى الرحمة؟
ليس واضحاً في النص، إِذْ النصوص فيها أصل إثبات الصفة.
فإذاً صرف اللفظ عن ظاهره المتبادِرِ منه إلى غيره لقرينة، هم لم يصرفوا الظاهرَ، وإنما صَرَفُوا شيئاً تَوَهَّمُوهُ زيادةً على الظاهر.
فالظاهر يجب الإيمان به والاستسلام له.
فهم تَوَهَّمُوا للظاهر شيئاً زائداً على دلالة النص، توهموا تمام معنىً وتوهموا كيفيةً.
فإذاً لم يقتصروا على الأمر الأول؛ وهو أنَّ النص جاء في الصفات وفي الأمور الغيبية لأصل المعنى وإنما توَّهَمُوا كيفية، فقالوا: كيف أن الإنسان يرى الله - عز وجل - بعينيه؟
معناه أنَّ الله - عز وجل - يكون متحيز، وسوف يكون في جهة، وسوف يكون إلى آخره من الأمور الباطلة.
ونقول هذه زائدة على النص.
فإذن التأويل الذي سُلِّطَ على النص في الحقيقة سُلَّطَ على ما في الأوهام ولم يُسلَّط على النص، فإنكم تَخَيَّلْتُم أنَّ النص يشمل الثلاث هذه جميعاً: في أصل المعنى وفي تمامه وفي الكيفية، ثُمَّ سَلَّطْتُم التأويل عليها.
فسلطتم إذاً التأويل ليس على اللفظ وإنما على ما تَوَهَّمْتُمُوهُ من اللفظ.
فإذاً قاعدة التأويل في الحقيقة لم تُطَبَّقُوهَا وإنما طبَّقتم ما في أذهانكم.
لهذا نقول: إنَّ إثباتَ الصفة هو إِثْبَاتُ وجودٍ لمعنى وليس إثبات تمام المعنى أو الكيفية.
فالقرينة التي بها تَسَلَّطُوا على النص هي قرينة المماثلة أو المشابهة.
فيقولون: هذا يقتضي التمثيل، يقتضي التشبيه، يقتضي التجسيم، فلذلك يُؤَوَّلْ.