فإذا كنا قد أبطلنا دلالة العقل فإنه لا يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه عَلَى القاعدة العكسية التي قلناها، يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [تقديم العقل يوجب عدم تقديمه ... إلى أن قَالَ: [لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يقدم فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل] بل هو كما قلنا قدح في العقل والنقل معاً وبهذا نخلص إِلَى أنه لا بد من تقديم النقل ولا بد من تجريد المتابعة ولهذا عقب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى هذا الكلام بالنص الذي هو منقول في أصله؛ وقريب من حروفه من مدارج السالكين لـ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أو كلما جاءنا رجل ألحن بحجته من الآخر أخذنا بقوله وتركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذا جعلنا الدين مرتهناً بالجدل والآراء والحجج والبراهين العقلية، فإنه لا بد أنه كلما أتانا رجل ألحن بالحجة ممن قبله، نترك ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونأخذ بكلام هذا أو ذاك، فإذا كَانَ لدينا المنهج الواضح، فلنتمسك به، وندع تلك الآراء، وتلك الجدليات جميعاً.