والرابع أنه قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين عَلَى أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إِلَى هذه الدار، ولا يذكر شهادة قبلها؛ نقول: ليس شرطاً أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، لأن الاستشهاد كَانَ في عالم آخر، ونحن الآن في عالم مغاير، فليس من الشرط أن يبقى ذاكراً لذلك، وأما يَوْمُ القِيَامَةِ فلا يستبعد أن يتذكروا أي: أننا الآن -بني آدم- في هذه الدنيا نقول: لم نتذكر أن الله تَعَالَى أخذ علينا العهد بهذا الشي بالذات، وهذا صحيح، لكن لا يبعد أننا نذكر ذلك في يَوْمِ القِيَامَةِ، والحساب أو السؤال عن هذا الميثاق إنما يكون يَوْم القِيَامَةِ: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] وأما في هذه الدار فمن رحمة الله أن الحجة لا تقوم إلا عن طريق الرسل
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وهذا أيضا لا اعتراض فيه؛ لأننا نقول: إن إرسال الرسل، وإن الفطرة والميثاق الأول جميعها أدلة متظافرة ولا يتعارض بعضها مع بعض، فما المانع أن يكون مع هذين الدليلين، ومع هاتين الحجتين، دليل ثالث وحجه ثالثه، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قدير عَلَى ذلك.
والسادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهاد هم جميعا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم] وهذا الوجه نجيب عليه بجوابين: